عندما نتحدث عن الوطن، ستتردد علينا عبارات كثيرة، تختزل الوطن في المكان والأرض والرقعة الجغرافية، كأولوية مُقدّمة على باقي العوامل الأخرى.
لذلك نسمع كثيرا عبارات مثل: أعشق ترابه، أقدس أرضه، أتنفس هواءه وغيرها.
ولكن، هل الأرض هي الأهم في مفهوم الوطن بالنسبة لـ"الفرد"؟
أقول "الفرد" حتى لا يُشكل على القارئ الكريم أني أتحدث عن مفهوم الوطن، الكيان المستقل بحدوده المعروفة ومقوماته السياسية والثقافية والتاريخية، لأن الأرض حتما هي أهم ما فيه.
الحديث هنا عن مفهوم الوطن بالنسبة للفرد، والذي أستطيع أن أختصره في هذه العبارة: "الوطن هو الناس"، وهذا لا يعني أن الأرض والمكان والعوامل الأخرى ليست لها قيمة.
حتى تتضح الصورة أكثر، لنفرض أن عائلتك وأقاربك وأحبابك هاجروا إلى دولة بولندا، وذهبت أنت إلى بولندا ستشعر بأنها وطنك، رغم أنك لم تولد هناك، ولم تعش فيها يوما واحدا من حياتك، وفي المقابل، إذا عدت إلى وطنك الحقيقي ستشعر بالغربة والوحدة، رغم أنك ولدت وعشت طول عمرك فيه. لماذا؟
لأن الوطن هو ناسك وأهلك وأحبابك، وليس مجرد أرض وتراب وهواء.
نعم، نحِنّ إلى الأرض والمكان، وهذه غريزة إنسانية، فنحن نحِنّ حتى إلى الأشياء البسيطة التي لها ذكريات جميلة في قلوبنا.
ربما تحِنّ إلى منزلك القديم، ولكن من الصعب أن تترك منزلك الجديد لتعود إلى القديم، فقد انتهت رابطة المكان، وتحولت إلى مجرد ذكريات جميلة.
وهذا ما حصل مع شعراء المهجر، فهم أكثر من تغنى بالوطن وأرضه وترابه وهوائه، ورغم ذلك لم يعودوا إلى أوطانهم، وإن عاد بعضهم إلا أن عودتهم كانت مؤقتة، ثم رجعوا إلى أوطانهم الجديدة، كما فعل أشهرهم، جبران خليل جبران.
أنا لا ألغي أهمية الأرض في مفهوم الوطن بالنسبة للفرد، ولكني أقول: إن الوطن هو الناس قبل أي شيء.
ولذلك تقول حكمة الأولين: "الجنة بلا ناس ما تنداس".