في الأزمنة السابقة كان الناس يقيمون في الأربطة وبيوت الأوقاف المحبسة على طلبة أهل العلم، ثم يأخذون على أحد العلماء المعتبرين دروسا في تخصص ذلك العالم أو يقرؤون عليه كتابا، فيمكثون على هذه الحال السنوات ذوات العدد، وبعد اجتيازهم اختبارات ذلك العالم يعطيهم إجازة بمثابة الشهادة على تضلعه من ذلك العلم، وقد يأذن لأحدهم بالإفتاء في مذهب معين، أو بالرواية عنه مسلسلا إلى مصدر ذلك العلم.

ولا يحتاج الطالب لإثبات صحة إجازته، لما يظهر عليه من نجابة وفهم ودراية، فضلا عن الشهادة المختومة بختم الشيخ، وقد ينسخ الطالب بيده كتابا من كتب العلم، ويقرأه على أستاذه، ويعلق بشرحه على حواشي ذلك الكتاب، فيتناقله الناس عنه، ويقرؤون ما ينسخونه عليه، فيتوارثه المهتمون جيلا بعد جيل.

لم تكن الإجازات في الزمن القديم مثار شك، لأن من سيدعيها سينكشف لأهل الاختصاص والمهتمين عند أول مباحثة، ولذلك لا أعلم أن ادعاء الحصول على الإجازات كان ظاهرة في الزمن القديم.

وفي زماننا هذا انتظمت الأمور، فاستبدلت الشهادات الموثقة الحديثة بالإجازات القديمة، وصارت للجامعات مستويات ومقاييس تدل على مصداقيتها وتأثيرها في الساحة العلمية، بل إن الجامعة الواحدة قد تبرز في أحد الفنون وتخفق في آخر.

أما ادعاء الحصول على الألقاب العلمية في زماننا هذا فقد تعددت مصادره وتنوعت مشاربه واختلفت أساليبه وطرقه، ولا يمكن حصر أعداد المانحين ولا الممنوحين لتلك الألقاب، ولا نرى توجها صادقا لجميع الدول في مواجهة هذا المد التزويري الكاذب.

إن أعداد المدعين للحصول على الشهادات الوهمية في تزايد كبير وتنامٍ ملحوظ وفي تخصصات عديدة؛ بعضها له أثر سلبي على الصحة العامة للأبدان؛ كالطب، أو على السلامة العامة للبنيان؛ كالهندسة، أو على الأمن العام للأديان؛ كالشريعة، وهذه التخصصات الثلاثة من أخطر أنواع الشهادات وأقبح أجناس التجاوزات.

ثم سرت حمى التدريب في علوم ناشئة من عقائد وثنية، لترسيخ رياضات التأمل وعلوم الطاقة، فوجد هؤلاء الغزاة ضرورة أن تتقدم أسماءهم ألقابٌ علمية لإعطائهم موثوقية أكبر، فأنشئت لذلك جامعات وهمية تعطي الشهادات مقابل مبالغ مالية كبيرة في مدة وجيزة وفي موضوعات هزيلة، ثم اشتدت حدة المنافسة بين مصادر تلك الشهادات حتى استعد بعضهم بإعداد الرسالة العلمية نيابة عن طالبها، ثم نبتت في مراكز خدمات الطلاب نابتة سوء يعلنون عن استعدادهم لصناعة الرسائل العلمية للطلبة المزورين لشهاداتهم، ثم وصل سوق الشهادات إلى الإعلان عن توصيلها للطالبين فور إيداع المبلغ المطلوب شاملة جميع الأختام والتصديقات المطلوبة.

وقد انبرى لمتابعة هذه التطورات محتسبون يلاحقون سوق الشهادات الوهمية في وسائل التواصل الاجتماعي، ويسائلون أصحابها عن مصادرها، فظهر للناس أمر أولئك المزورين الغشاشين، وتنبهوا لخداعهم، ففقدوا كثيرا من أسواق ترويج بضائعهم المغشوشة، فما كان من هؤلاء إلا أن بدؤوا الصراخ بقدر آلامهم دون حياء ولا خجل، ملوحين بإقامة الدعاوى ضد هؤلاء المحتسبين عليهم، زاعمين أنهم يشهرون بهم، متغافلين عن واقعهم الجنائي في حق الأمة كلها؛ بادعائهم ما ليس لهم بحق، مستبعدين قيام أجهزة الحكومة بواجبها الرقابي نحوهم، والله تبارك وتعالى يقول {مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ}.

لقد تضاعف هؤلاء المغرورون والمغرر بهم حتى صاروا بالآلاف، وانضم إليهم كثير من المخدوعين بالألقاب المبهورين بالمكانة الاجتماعية والمنتفعين بها في خداع الناس والاستيلاء على مدخراتهم بالتزييف والتزوير.

لقد أضحت القضية وأطرافها ظاهرة محلية ثم صارت إقليمية ثم أصبحت عالمية، وبدأت الدول المصابة بهذا الداء في التعامل الحازم مع أطرافها، عدا بعض البلدان غير المستقرة سياسيا، لانشغالها عنهم بتحقيق الأمن وترسيخ الاقتصاد القومي، مما هو أهم عندهم من هذا الوباء السرطاني المستشري.

كل هذه المصائب والتجاوزات وجهات الرقابة العلمية في بلادنا لا تحرك ساكنا، بل يلقي بعضهم على بعض المسؤولية الكاملة، وإن على وزارتي التعليم والعدل الواجب الأكبر في حصر وملاحقة المزورين الغشاشين، والتشهير بأسمائهم وصورهم في وسائل الإعلام المقروءة والمرئية، بعد إعطائهم الفرصة للتخلي عن تلك الشهادات نهائيا والبراءة منها، وحذف كل ما يدل عليها من ملفاتهم ووثائقهم ومستنداتهم.

ومن لم يفعل ذلك منهم فيحال إلى هيئة التحقيق والادعاء العام، لمطالبتهم بسحب شهاداتهم والتشهير بهم قضاء، وتغريمهم ما جنوه من أموال بسبب تزويرهم وتزييفهم، وتحميلهم مسؤوليات ما لحق بضحاياهم من أضرار نفسية وبدنية ومالية.

ومن باب قول المولى -جل وعلا- {هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ}، فإن القائمين على ملاحقة حاملي الألقاب المزورة لهم الحق علينا حكومة وشعبا أن يكرموا على اضطلاعهم بواجب وطني كبير، تخاذل عنه الكثير، وجبن عنه أهل الاختصاص، وغفل عنه السواد الأعظم من العامة، ووقع في ضرره وخطره آلاف الناس، ولا أقل من إظهار الاحتفاء بهم وتقليدهم أوسمة مناسبة لجهودهم، ليتقوا به شر أولئك الأشرار ومن وراءهم.