في البداية، ظننت أن الأمر مجرد نكتة سمجة كمثيلاتها هذه الأيام، ممن يحلو لأصحابها التندر بمعاناة المواطنين، ولكن يبدو أن الأمر داخل في الجد، وقد تجاوز حدود المبالغة إلى الاستخفاف بالعقول، باللعب على وتر تطوير المعارف والمهارات والقدرات، وتحقيق الاستدامة وغيرها من العبارات والكلمات الرنانة، لتبرير ما لا يستساغ قبوله أصلا ولا معنى.

فالجامعات غنية بالكوادر الأكاديمية المتمرسة التي تمكنها من الاكتفاء ذاتيا في تحديد معايير وآليات قبول طلابها وطالباتها، كما كانت تفعل سابقا، وتفعله القطاعات الطبية الآن، وكذلك القطاعات الحكومية والخاصة، هي أدرى بمعاييرها ومتطلباتها الوظيفية من مجموعات يكتظ بهم "المركز الوطني للقياس والتقويم" دون أي إضافة عملية ومجدية تعكس هذا الزخم "الشكلي" طوال هذه السنين.

ما الذي حققه قياس طوال خمسة عشر عاما من تأسيسه؟

فمخرجات التعليم ما تزال تداري عن سوءاتها، ومعدلات البطالة في ازدياد ملحوظ، والتنمية تسير ببطئها المعتاد، ومصدر الدخل الرئيسي كان وما زال منذ أربعين سنة هو النفط، وتعقيدات الحياة في ازدياد، و"قياس" هذا لا يعدو عن أنه فكرة فاشلة أثقلت كواهل الطلاب وذويهم، وزادت من العقبات أمام كل الطبقات في الالتحاق بالجامعات أو الحصول على وظيفة لا يتطلب أداؤها أسئلة كمية وتحصيلية، بقدر ما يتطلب إخلاصا وجدية في العمل.

إلى متى سنظل رهينة هذه الإنجازات النظرية التي لا تمت إلى الواقع العملي بصلة، وتدور بنا في حلقة مفرغة لا مصلحة منها تسهم في إحداث تقدم ملموس على مستوى الأهداف التي وضعت من أجلها.

أما آن الأوان أن ندرك أن التحسين المنشود في كل القطاعات المستهدفة يجب أن ينبع من داخلها، وليس من جهة خارجية تتبنى معايير نظرية لم يتم التحقق من مدى نجاحها وفعاليتها على مدى طويل، بل على العكس من ذلك فهي تتحول الآن إلى مسارات روتينية عقيمة ذات آثار عكسية فورية.

نحن لسنا في حاجة إلى "قياس" لتقييم مستوى طلاب وطالبات الثانوية العامة، بقدر ما نحن في أمس الحاجة إلى إصلاح التعليم وأنظمته بشكل عام، نحن لسنا في حاجة إلى "قياس" لتقييم مستوى الكفاءة الوظيفية، بقدر ما نحن في أمس الحاجة إلى الاهتمام بتطوير أنظمة العمل والاعتناء ببرامج التدريب لخلق الكفاءات الوطنية الفعالة.

ختاما، لو أخضعنا "المركز الوطني للقياس والتقويم" لاختبار "قياس" حقيقي مستمد من واقع إنجازاته، ماذا يا ترى ستكون النتيجة؟!