الشاي والقهوة مشروبان لهما حضور في حياة الكثيرين، تطورا من حاجة فردية إلى مظهر اجتماعي فقامت لهما بيوت يجتمع تحت سقوفها وفي أفيائها الأصدقاء والمعارف والزملاء في لحظات التحرر من الرسميات يتحلقون حول طاولاتها فينطلق الحديث متشعبا بلا ضوابط ، يشرق ويغرب. وقد يتوفر من الدواعي ويجتمع من الأسباب ما ينقل الحديث من عمومياته وتشعباته وانسيابه الحر إلى قيد الموضوعية والتحديد للخروج بنتيجة محددة. هذا هو السائد والمتعارف عليه في المجتمعات التي تجعل للشاهي والقهوة طقوسا للاحتفاء لكن حزب الشاي الجديد في الولايات المتحدة الأميركية (وقد تظهر له نسخ أخرى في العالم المفتون بتقليد أميركا والغرام بتقليعاتها) هو حركة احتجاج ظهرت على المسرح السياسي بعد الأزمة الاقتصادية عام 2009 وما تلاها من تدخل الحكومة الفدرالية لإيجاد حزمة من البرامج والقوانين لإنقاذ المصارف الكبرى والشركات المنهارة. وهو مجموعة من الناشطين السياسيين الذين يجتمعون على أفكار مشتركة حتى وإن لم يجمعهم حزب. وهذه الأفكار المشتركة جعلتهم يتفقون على مهاجمة الرئيس باراك أوباما ويعارضون زيادة الضرائب لأنهم يرون أن الأغنياء أقدر على زيادة الإنتاج الاقتصادي من الحكومة، كما يعارضون تقييد حركة وحرية الشركات رغم أخطائها التي كانت سببا رئيسا في الكارثة الاقتصادية .. ويرى بعض المهتمين بهذا الحزب ونشأته ومدى تأثيره على الحياة السياسية الأميركية أنه "مشروع" معارضة تنمو في أوساط الطبقة الوسطى احتجاجا على تدخل الحكومة في إدارة الاقتصاد والرعاية الصحية والنظام المالي ...

وهكذا بدا أن "طقوس" شرب الشاي الأميركي أوجدت رأيا وشكلت رؤية محددة الملامح تنطلق من فلسفة واضحة المعالم تستند على وجهة نظر يمكن مناقشتها وفحص حججها والرد عليها حتى وإن اختلف الناس معها أواختلفت آراؤهم حولها.

***

"صوت الشاي الأميركي" الذي استطاع أن يكون له تأثير على نتائج الانتخابات النصفية الأسبوع الماضي فحقق الجمهوريون، بحيويته ونشاط أعضائه، الأغلبية في الكونجرس قد يثير لدى البعض تساؤلات عن أثر "القهوة" في مجتمعات لا يجتمع فيها اثنان إلا والقهوة ثالثهما وكيف يبدو انضباط أهل "الشاي" هناك ويتجلى شتات "أهل القهوة" هنا.. ويا ترى: ما هي وجهة نظر "شريبة القهوة" في ساحتنا وكيف يتفاعلون مع ما حولهم من واقع ؟. في البداية يحسن القول إن المقارنة لن تكون موضوعية ولا منصفة لأنها تتجاهل البيئة والمناخ لكن في الوقت نفسه المطلوب منها هو اكتشاف تأثير أصحاب المشاريع المحددة على تطور مجتمعاتهم في حين يظل أصحاب الخطاب "الغائم" قليلي التأثير. والذين تستدعيهم الذاكرة، حين الحديث عن جلسات الشاي والقهوة في مجتمعنا، كثيرون ولهم حضور مختلف وصور متباينة ولكن الذين تقصدهم هذه السطور هم مجموعات تتكون وتتفتت حسب أمزجة أفرادها لا يربطهم رابط ولا يجمعهم حزب ولا تضمهم نقابة ولا تحصرهم مؤسسة فهم منتشرون على خريطة الوطن يحلو لهم الجلوس في المقاهي والمطاعم وقد يتفق بعضهم على اللقاء في ركن فندق أو في مجلس خاص يلتقون فيه بانتظام أو على فترات. هي مجموعات لا يربطها سوى الاشتراك في "عدم الرضا" عن أي شيء ولديها استعداد وقابلية لنقد أي شيء ويتمتع أفرادها بحماسة طاغية لمناقشة أي فكرة والوقوف معها أو ضدها دون تبرير مقنع. ويميز أفراد هذه المجموعات أنهم لا يستندون إلى خبرة أو يتسلحون بمعرفة ما يناقشون ولا يلتزمون بمنهج ولا يتعبون أنفسهم بمراعاة موضوعية قد تخفض من أصواتهم حين يحمى النقاش وترتفع الأصوات لأن الغلبة، في عرفهم، للصوت العالي مهما ضعفت حجته أو ماعت أفكاره. وتراهم إذا تحمسوا لفكرة أو أعجبوا بمشروع أو انحازوا إلى أشخاص فهم الأبرياء من كل عيب الأنقياء من كل دنس. وإذا كرهوا أو انحازوا ضد مواقف أو أشخاص فالويل لهم ..

وإذا حاولت دراسة "خريطتهم" أو توزيعهم على مناشط الحياة تجدهم موزعين على مساحة اهتمام الناس، فهناك رواد "قهوة السلوك" الذين يرفضون ما عليه الناس وما تعارفت عليه عاداتهم وما يحرصون على التزام به وما ألفوا في حياتهم من قيم وتقاليد. وإذا سألت رواد "قهوة السلوك": ماذا تريدون من المجتمع أن يغير في سلوكه وعاداته حتى تستقيم أحواله؟ فلن تجد جوابا شافيا بل ستواجه بغمغمة لا تفصح عما تريد وتكتفي بأن تقاليد المجتمع متخلفة وبالية ولا تساعد على مسايرة العصر وأن عليه الخروج من عباءة الماضي المتوارث إذا كان يريد التعرض لأشعة شمس العصر التي تقتل جراثيم التخلف! وهذه القهوة الرافضة لما عليه المجتمع لا تقدم تصورا محددا ولا تقترح برنامجا مفصلا يساعد على التقدم نحو ما تريد وكل همها أن يظل صوتها مرتفعا صاخبا بالقول إن المجتمع يعيش في ظلام. ولا يختلف رواد قهوة نقد عادات المجتمع عن رواد ِقهوة ملاحقة الناس وتفتيش ضمائرهم وفحص عقائدهم والطعن فيها والتشكيك في صدقها ونقائها. إذ لا يمل رواد هذه القهوة من التشكيك في سلوك الناس ومقاصد تصرفاتهم وملاحقة نظراتهم لفحصها. وإذا تمكنت من سؤال أحد رواد هذه القهوة: ما هو المعيار الذي تقيسون به صلاح الناس وصدق توجههم ونقاء ضمائرهم تلعثم بعموميات الصلاح والنقاء والصدق. وهي ألفاظ لا يختلف عليها الناس لكن رواد هذا المقهى لا يريدون أن يشترك معهم أحد في حق الفهم المراد من هذه الألفاظ فهم وحدهم من يعرف مرادها وهم وحدهم المؤهلون لتفسيرها وبيان دلالتها بحسب الظروف.. وإذا قبل الناس – على مضض- "عموميات" رواد مقاهي حماية سلوك المجتمع ودعاوى حراس تنقية الضمائر من الفساد فإن الحيرة تصاحب المتأمل في خطاب رواد "مقاهي" الثقافة والاقتصاد وتطوير التعليم ومكافحة البطالة فأصوات رواد هذه المقاهي لا تقل ارتفاعا وتضجيجا وخطابها لا يقل غموضا وتعميما، فلا تقدم مقاهي الثقافة رؤيتها في الحياة ولا تعرض مشروعها لما تريده أن تكون عليه البيئة الثقافية. وما يقال عن "مقهى الثقافة" يمكن سحبه على بقية المقاهي مع شيء من التعديل الجزئي الذي لا يغير من الصورة العامة. والقهوة الكبرى في "مدينة مقاهي الكلام" هي الإنترنت، حيث الكلام في الظلام بدون رقيب وبدون عناوين وبدون لافتات ولا أسماء. وفي هذه الغابة: الإنترنت، تنفجر سخائم النفوس ويسيل ما فيها من صديد الكراهية والأحقاد والأمراض والعقد فتتلون اللغة بألوان البغض لكل مخالف فلا إنصاف ولا موضوعية ولا احترام لعقل ولا تقدير لشيء.

هذه خواطر "قهوجية" أثارها لون الشاي الأميركي بدت مبعثرة كما كراسي الشريط في مقاهي سيارات النقل. وعلى كل حال هذه ليست المرة الأولى التي ينشر فيها الأمريكان الفوضى حيث ما يحلون.