الإنسان هو المقصود بالإصلاح، وهو المقصود بالرعاية والعناية، ومن أجله أرسل الله الرسل، وأنزل الكتب، ونصب الأدلة، وخصه بالعقل الذي يميز به بين الحق والباطل، وبين المصلحة والمفسدة، وبين النافع والضار، عن طريق التفكير المجرد، أو عن طريق الخطأ والتجربة وتراكم الخبرات شيئا فشيئا في مسيرة التطور الإنساني عصرا فعصرا، ومن شأن الإنسان أن يترقى في سلم التحضر والتمدن والأخلاق؛ فإذا انتكس وانحط فإنه يمشي منكبا على وجهه، أو مرتدا على عقبيه؛ وهو بهذا يستحق العقوبة، وكفى بالانحطاط والتراجع والهزيمة عقوبة: "قل هو من عند أنفسكم".

آيات القرآن الكريم ترفع من شأن الإنسان جدا؛ فقد أسجد الله الملائكة لآدم عليه السلام، وورد النص بالتكريم الإلهي للإنسانية: "ولقد كرمنا بني آدم"، هذا التكريم ليس للمؤمنين فقط، بل للنوع الإنساني بما هو نوع إنساني.

وعلى مقدار عظمة هذا الكون وانفساحه وامتداده إلى درجة يظن فيها الظان أنه لا نهائي؛ إلا أن النص القرآني يصرح أن ما في السموات والأرض مسخر للإنسان "أي للنوع الإنساني" رغم أن لحياته نهاية، فتأمل –أخي القارئ– هذا المعنى، فالإنسان "سيد" في هذا الكون. لا يقال: هو "سيد الكون"؛ فسيد الكون هو رب العالمين، ولكن الإنسان سيد "في" هذا الكون. "الله الذي خلق السموات والأرض وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقا لكم وسخر لكم الفلك لتجري في البحر بأمره وسخر لكم الأنهار (32) وسخر لكم الشمس والقمر دائبين وسخر لكم الليل والنهار (33)" [إبراهيم: 32، 33].

"وسخر لكم الليل والنهار والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون (12) وما ذرأ لكم في الأرض مختلفا ألوانه إن في ذلك لآية لقوم يذكرون (13) وهو الذي سخر البحر لتأكلوا منه لحما طريا وتستخرجوا منه حلية تلبسونها وترى الفلك مواخر فيه ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون (14)" [النحل: 12 – 14]

هذه الآيات الكريمات تصريح ما بعده تصريح، بأن الله سخر هذه الآيات الكونية للإنسان: الليل والنهار والنجوم والبحار والأنهار، والفلك؛ ليفيد منها.

بل هناك آيات تجعل التسخير عاما لكل ما في الأرض فتقول: "ألم تر أن الله سخر لكم ما في الأرض" [الحج: 65]

وقوله: "ما في الأرض" يشمل كل ما ينطبق عليه، سواء أكان من عالم "المادة" أو من عالم "الأفكار"؛ فليست الأفكار –مثلا– ربا يعبده الإنسان، بل هي من مبتدعاته المسخرة له. كما قال القائل: "الإنسان عبدٌ لله وحده، وسيد لكل شيء بعده". فكيف يرضى إنسان أن يكون عبدا لأيديولوجيا، أو حزب، أو جماعة، أو تيار، أو كيان أو أي شيء هو في الأصل مخلوق من أجل هذا الإنسان وخدمته؟!

بل إن هناك آية أوسع مدى في التعميم. قال تعالى: "ألم تروا أن الله سخر لكم ما في السموات وما في الأرض وأسبغ عليكم نعمه ظاهرة وباطنة" [لقمان: 20]

التسخير هنا يتعدى ما في الأرض إلى ما في السموات؛ كل شيء في الأرض والسماء مسخر لهذا الإنسان وخادم له؛ فأي مخلوق عظيم هذا؟ وأي ابتلاء حقيقي يناله في هذا التسخير؟

إنها –إذن– مسؤولية عظيمة، وأمانة ثقيلة على الإنسان أن يرعاها حق رعايتها؛ فإن ظلم أو أفسد أو افترى شقي وأشقى، ومن أجل "وقايته" من هذا أنزلت الشرائع السماوية التي تحث على استخدام "العقل" فيما ينفع النوع الإنساني تنظيرا وتطبيقا، وتأمر بـ"الأخلاق".

لا يتسع المقام لمزيد تفصيل، غير أني أزعم –فهما واستقراء للقرآن الكريم- أن أركان الإصلاح ثلاثة:

1. الإصلاح الأخلاقي؛ فيجب وجوبا عينيا على كل إنسان أن يُقوّم أخلاقه، وأن يسعى إلى نشر القيم الأخلاقية: من العدل والإنصاف والرحمة والصدق والنزاهة والحكمة وإتقان العمل والوفاء بالعهود ونصرة المظلومين والمواساة والتواضع...إلخ؛ بكل ما يتفرع عنها من جزئيات وتطبيقات، وكل فلسفة لا تجعل للأخلاق قيمة، وكل فلسفة تدمر هذه الأسس الإنسانية الحافظة للنوع الإنساني من التردي؛ هي فلسفة عقيمة، بل هي مفسدة من المفاسد. وإذا كان بعض فلاسفة الحداثة أفاض في الحديث عن "فلسفة القوة" غير عابئ برحمة الإنسان لأخيه الإنسان؛ جاعلا عرقا أو حزبا أو لونا هو السيد على من دونه من البشر؛ وإذا كان لتلك "المزابل الفكرية" صدى يقبل عليه بعض شباب اليوم؛ فعلى العقلاء إقامة فلسفة مقابلة تنقض هذا الهراء، وكل إنسان عليه أن يتولى بقوة وبجد واجتهاد مسؤوليته الأخلاقية، وأظن القارئ يوافقني أننا نعاني اليوم من ردة أخلاقية وقيمية مؤسفة، وبلا أخلاق لا يرجى إصلاح.

2. الإصلاح الفكري والعقلي؛ ذاك أن الإنسان مكلف "بعقله هو" لا بعقل فلان وفلان من السابقين أو اللاحقين، وسيبعث فردا يوم القيامة، فعليه هو -بنفسه– أن يستدل، وعليه هو –بنفسه– أن يتعلم كيف يفكر، وينظر، وعليه هو –بنفسه– أن يصل إلى الحق؛ فإن أخطأ –وهو منطلق انطلاقا نزيها– في مسيرة الفكر والاستدلال والنظر؛ فالله غفور رحيم، وإذا شئنا أن نسمي نتائج ما يصل إليه الإنسان حين يفكر منهجيا ويستدل؛ إذا شئنا أن نسمي نتاج فكره "فلسفة" فليتفلسف الإنسان إذن، ولينطلق في رحاب الفكر الواسعة؛ فحركة الفكر –على أي حال– خير من جموده؛ إذا كان نزيها؛ بشرط الالتزام التام بالأخلاق التي تمنع من الظلم والقهر وإهلاك الحرث والنسل، وإهانة الإنسان والإضرار به والعلو عليه.

3. الإصلاح التكنولوجي؛ بدراسة قوانين الطبيعة "المسخرة للإنسان كما أسلفت"، والإفادة منها لصلاح الإنسان، وتيسير حياته، ومنفعته، لا لقهره واستعباده واستغلاله، وإلا فما معنى التسخير إن لم ينظر الإنسان في قوانين الطبيعة.

هذه أركان ثلاثة للإصلاح؛ وكي نصل إليها، لا بد من تذليل الطرق كافّة إلى ذلك؛ بل النضال من أجل تحقيق هذه المقاصد؛ برفع الوصاية عن عقول الناس وطاقاتهم، والحرص كل الحرص على "الأخلاق"؛ فهي –أعني الأخلاق– سفينة النجاة حقا، التي تعصم الناس من أن يبغي بعضهم على بعض، سواء أكانوا ذوي سلطة، أم لم يكونوا كذلك.