في كل عام ترتدي الطائف قميصها ومعطفها (الوردي)، فيورق فوق أصابعها المخملية عبير المسرات، وتعرش في مساربها لغة الحب والشعر والحياة، الطائف حين تفرك راحتيها تتحول إلى قارورة مسك، ونهر من ضوء وعقيق، إنها ملجأ العاشقين وملاذ ووسادة الشعراء والمغرمين، في كل عام تؤثث الطائف رفوف حدائقها، وممرات دروبها، وشرفات بيوتها، ورواق جبالها، لتشعل مدفأة صباها وحرير صباحاتها وألق فستانها القرنفلي، حين تستفيق أزاهيرها تتساقط أغاني الشعراء كما تتساقط المشاعر الجذلى من قبة الروح، قبل ستين عاما وفي أناقة مترفة وطاقة قولية عذبة أصغت الأسماع إلى الشاعر (عبدالكريم خزام)، وهو يحاور وينادم ورد الطائف: (وردك يا زارع الورد فتح ومال على العود _وردك جميل ما أحلاه فتح على غصنه _لما الندى حياه نوّر وبان حسنه)، حمل خزام كلماته الوردية ليودعها حنجرة عابرة للعصور والأزمنة، مفعمة بالجاذبية الجمالية والحسية، وفائض الإنشاد النغمي الطروب، لو غناها غير قيثارة الشرق (طلال مداح) لمحا اللذة الطرية والمعتقة في مخدع الكلمات، وقصم اللحظة الطربية المندمجة بين النص ومنشده، فطلال -رحمه الله- هو ابن الطائف، ومن هنا كان يداعب المعاني بتدفق أخاذ، وحرارة وجد شغوف، وارتعاشة عاشق أسير، حدد الباحث والمؤرخ الصديق (حماد حامد السالمي) أنسب المواقع والديار التي تشتهر بزراعة (الورد)، الهدا، وادي محرم، وادي الغديرين، الشفا، الأقليح، بلاد طويرق والضحيا، وغيرها من السفوح المطلة على تهامة من غربي الطائف وجنوبها، ولكن اللافت في دراسة وبحث (السالمي) عن ورد الطائف قوله وتأكيده (إن الطائف لم تعرف الورد إلا قبل 200 سنة فقط، داحضا كل الروايات التي تدعي معرفة الطائف للورد في العصر الجاهلي أو العصور التي تليه، مستشهدا بالرحالة الفرنسي (موريس تا ميزيه) الذي زار الطائف عام 1834، وزار الهدا، وذكر شهرتها بالفاكهة مثل الطائف، ولكنه لم يذكر شيئا عن الورد الذي لم يكن دخل الطائف قبل هذا التاريخ)، وكم أتمنى أن تكون هذه الدراسة موضوعا للطروحات والمحاججات والرؤية المضادة أو المتوافقة مع ما ذهب إليه الباحث (السالمي) من خلال ما تنهض به المؤسسات الثقافية والأكاديمية في مدينة الطائف، فأنا أشك فيما ذهب إليه السالمي رغم رصانة بحوثه وعمق دراساته، وبالذات عن الطائف التي يعشقها وأفنى عمره منقطعا للبحث في كل شاردة وواردة من تاريخها، ومواضع حضارتها والكشف عن مستبطنات كوامنها، إن استشهاد الصديق السالمي بمقولة رحالة عابر واعتماده عليها ليست قطعية الدلالة ولا قطعية الثبوت، فقد يكون عَبر تلك الديار في غير موسم الورد وقطافه، ألست القائل يا صديقي: (تدخل شجرة الورد في بيات صيفي خريفي، فتفقد خضرتها وتنفض عنها ورقها وتبقى أعوادا جرداء إلى أن يحل شهر ديسمبر).