العاصفة التي خلفتها الزيارة التاريخية لخادم الحرمين الشريفين إلى القاهرة هي بمثابة صحوة مفاجئة على أكثر من ناحية وصعيد. ولا أعتقد أن هذه العاصفة تحدث في القاهرة فقط، بل لدى العرب ككلّ، من المحيط إلى الخليج. ومن الطبيعي أن يكون الصوت عاليا في القاهرة وربما في السعودية، لأنهما موضوع الحدث الذي شكل صدمة في الوعي العربي المستكين والمتكيّف مع فشل الوحدة الاندماجية ونتائجها الكارثية، ومع التسليم بالتفكك المجتمعي العربي والوطني داخل الدولة الوطنية، وداخل منظومة العمل العربي المشترك المعطّل والمشلول تماما.

النخبة العربية كانت تتابع تلك الزيارة ودقتها وموضوعاتها واتفاقاتها وجديّتها وحسن الإعداد لها وأبعادها الإنمائية والأمنية والاجتماعية. وهي بمثابة التأسيس لثقافة التكامل العربي التي لا يمكن أن تقوم إلا على أساس احترام الحدود بين الدول والمجتمعات والخصوصيات والفصل بين الخاص والعام والوطني والمشترك، وهذه القواعد التي يتكون عليها المجتمع الوطني أيضا، وهي ثقافة الحدود الأخلاقية والاجتماعية والوطنية.

إن فشل دولة الوحدة العربية الاندماجية عام 58 كان سببه الأول هو طغيان المشترك العربي على الخاص الوطني، وبمعنى أوضح أنها أزالت كل الحدود الوطنية والمجتمعية خلال ساعات، وأعلنت قيام الجمهورية العربية المتحدة بقطريها المصري والسوري، والتي انتهت عام 1961 بكوارث فكرية وثقافية جعلت من الوحدة العربية حلما مستحيلا، رغم بقائها في أدبيات الترف النخبوي، الفكرية والسياسية والدبلوماسية.

لا يجوز أن ندعي أننا فوجئنا بالزيارة التكاملية التاريخية للملك سلمان بن عبدالعزيز إلى القاهرة، لأن إعلان القاهرة بين الرئيس المصري وولي ولي العهد السعودي في نهاية يوليو 2015 كان واضحا لجهة مضمونه الإستراتيجي. وقد كتبنا في هذه الزاوية حينها عن التعامل الإعلامي مع إعلان القاهرة على أنه كان أقل من الحدث، بالإضافة إلى مشاركة مصر في قوات التحالف العربي في اليمن، وأيضا المشاركة في قوات التحالف الإسلامي، وحضور الرئيس المصري مناورات رعد الشمال إلى جانب الملك السعودي، من دون أن ننسى وقوف السعودية مع مصر بعد تحولات ما يعرف بالقاهرة 30/ 6/ 2013.

لا يجوز أيضا أن ندعي أننا فوجئنا بردة فعل بعض النخب المصرية والسعودية على هذه الزيارة التكاملية التاريخية، لأن السجال الإعلامي والسياسي بين النخبتين في الأعوام الماضية كان واضحا، وفي كثير من الأحيان شديد الحديّة، وقد أصبحت هناك نخب متخصصة في هذا السجال في كلٍّ من مصر والسعودية. وذلك يظهر إلى حدّ بعيد عن يأس النخبتين في قيام نظام عربي جديد يقوم على التكامل واحترام الحدود، هذا بصرف النظر عن القوة الإقليمية والدولية التي لا ترغب في التقارب السعودي المصري بما هما القوتان العربيتان الوحيدتان في النظام الإقليمي الجديد إلى جانب تركيا وإيران وإسرائيل، ولا داعي للتوسع في التفاصيل حول حجم التداخلات في المواجهات التي تدور في الإقليم.

المتابعون للتطورات العربية العربية يعرفون جيدا ذلك المأزق العميق في الفكر العربي، خصوصا عند مقاربته بقضية العمل العربي المشترك، السياسي الاقتصادي على وجه التحديد. وهذا ما دار في اجتماع بين رئيس مؤسسة الفكر العربي الأمير خالد الفيصل، ومجموعة من كبار المفكرين العرب في القاهرة بعد لقائه الرئيس المصري رئيس القمة العربية، وطلب رعايته المؤتمر الوحيد الذي عقد لإحياء الذكرى السبعين لتأسيس جامعة الدول العربية.

اعترض المفكرون على التكامل العربي كموضوع للمؤتمر، وكان المعترضون من القامات الفكرية الكبيرة، ولديهم حججهم وأسبابهم الدقيقة التي تجعلهم يعترضون على توجّه صاحب السمو رئيس مؤسسة الفكر العربي. وبعد حوار طويل استقر الرأي على التكامل العربي موضوعا للمؤتمر، على أن يُسبَق بورش تحضيرية في مقر جامعة الدول العربية، يشارك فيها نخبة من كل الدول العربية بدون استثناء، وأن تتفرَّع موضوعاتها على "الدولة الوطنية" و"الهوية" و"التكامل الأمني" و"التكامل الثقافي" و"التكامل الاقتصادي" و"جامعة الدول العربية"، وأن يصدر ما سينتج عن هذه الورش في تقرير يكون جاهزا قبل انعقاد المؤتمر.

شاركت في تلك الورش، وعلى مدى خمسة عشر يوما، مع أكثر من مئة وثلاثين مشاركا من مفكّرات ومفكّرين وأصحاب اختصاص وإستراتيجيين. سمعت الكثير من الغضب والسخط والاتهامات، وكلها كانت تحاكي تجارب الماضي المليء بالفشل والخيبات والنكسات. وكانت شواهد الحاضر من خراب ودمار في سورية والعراق وليبيا تساعدهم على الإمعان في العدمية وفقدان الأمل.

تابع سمو الأمير أعمال الورش والمؤتمر، ساعة بساعة ومفردة بمفردة، جاعلاً من التكامل العربي هدفا يحتاج تحقيقه إلى كثير من الحكمة والتروّي والبحث والتفكير والتخطيط والعمل والإنجازات والنجاحات، والانتقال إلى ثقافة السؤال بدلا من الإجابات الجاهزة والمراجعات، والتي وحدها تساعدنا على بناء وعي عربي جديد خال من آثار الفشل والانهيارات والاعتداءات، وتعميق ثقافة الحدود الأخلاقية والثقافية والجغرافية والوطنية، واحترام الخصوصيات، والبحث عن المشترك الذي يعزز الاستقرار والتقدم والازدهار للدول العربية.

بعد هذه المراجعة العملانية والواقعية المباشرة أعتقد أن زيارة خادم الحرمين الشريفين، إلى مصر قد أيقظت الوجدان العربي في بناء جسور التكامل والتقارب واحترام الذات. وأعتقد أن العاصفة السياسية التي تدور هنا وهناك هي نتيجة للصدمة العملانية والجدية التي تميزت بها هذه الزيارة التي تشكل النقطة الفاصلة بين تحديد الجزر وتجديد الأمل.