لعلي لست في حاجة لأقول إن بلادنا ليست استثناء من ظرف اقتصادي عالمي ضاغط تمر به جميع دول العالم. أيضاً لعلي لست في حاجة لأقول إن بلادنا اليوم أصبحت من أهم اللاعبين الكبار في مسيرة الاقتصاد العالمي، وأن الأدوار بينها وبين القوى العظمى في العالم أصبحت متبادلة تقريباً في تقرير مصير الاقتصاد العالمي، ويكفي أن أضرب مثالاً واحداً لإثبات ذلك وهو أن جميع مآلات الاقتصاد العالمي التي تتحكم في رقاب الدول اليوم محركها الرئيس هو البترول الذي تسبح بلادكم فوق بحيرات منه، منها ما تم اكتشافه، ومنها ما لم يكتشف بعد، فضلاً عن الذهب والثروات المعدنية الأخرى الذي تكتنز أرضنا أطنانا منها.

أيضاً لعلي لست في حاجة لأقول إن الإجراء الطبيعي الذي تلجأ إليه دول العالم في الأزمات الاقتصادية هو ترشيد الإنفاق حتى تبقى السيولة النقدية في معدلاتها الطبيعية، وهذا شأن جميع الدول، ليس في الأزمات المالية التي قد تعصف بالبلدان وحسب، لكن يبقى الترشيد سلوكاً عاماً حتى لدى الشعوب سواء أثناء الضوائق، أو في أوقات الانفراج تحسباً لهذه الضوائق، فالترشيد مسلك حضاري في جميع الأحوال، ولم يعد متصوراً في عالم اليوم أن يعيش شعب دون خطة إنفاق متوازنة، تجنبه الشعور الخانق بالأزمات الاقتصادية التي قد تمر بها بلاده.

لذا فحين نقول لإخوتنا، ولاسيما جيل الشباب اليوم، إن علينا جميعاً أن نتبنى خطة ترشيد إنفاق عام، فنحن لا نتحدث عن بدعة اقتصادية، بقدر ما ندخل في السياق الاقتصادي العام لشعوب العالم، وإلا فسنكون خارج السياق، فلا يعقل أن يكون العالم كله ينفق بحذر، ونحن ننفق دون حساب، هذا من شأنه أن يعمق من شعورنا بالأزمات الاقتصادية، فضلاً عن أنه يعني أننا لا نمتلك الوعي الاقتصادي الكافي بطبيعة المراحل التي تمر بها بلادنا شأن جميع بلاد العالم.

ولقد قدمت لحديثي هذا باستعراض جانب من ثرواتنا النفطية والمعدنية؛ حتى لا نخيف الناس في حين أن بلادنا بألف خير وعافية ولله الحمد والمنة سبحانه وتعالى، بل العكس هو الصحيح تماماً، نريد طمأنة الجميع حتى لا ينزعجوا من الشعور بالأزمة الاقتصادية التي تمر بها بلادنا، ليعلموا أنها أمر عادي، وأن جميع دول العالم تمر بها وليست بلادنا وحدها، وأن علينا جميعاً أن نكون شركاء لبلادنا نساندها وقت الأزمات، فإذا كنا نواجه أزمة سيولة فإن الترشيد الكبير للإنفاق سيخفف كثيراً من حدة هذه الأزمة لأنه سيبقي نقص السيولة في المعدل المقبول دائماً الذي لا مخاطر منه، وهذا واجب على المواطن، فهذا وطننا جميعاً، وجميع حكومات العالم في مثل هذه الظروف تطالب شعوبها بترشيد الإنفاق بالإضافة إلى السياسات الإصلاحية التي تقوم بها على الصعيد الاقتصادي، وهو تماماً ما تفعله حكومتنا الآن، وأرى أنها تسير في الاتجاه الصحيح، ويبقى على المواطن أيضاً أن يضطلع بمسؤولياته، تجاه نفسه، وتجاه بلاده.

أيضاً لعله يجدر بنا أن نوضح أن ما نتحدث عنه إنما هو أزمة عارضة، لظرف عارض، وأن اقتصادنا القوي العالي التصنيف من قبل مؤسسات التصنيف الائتماني العالمية، سرعان ما سيتجاوز أزمته وسيتعافى بحول الله، تماماً مثلما تعافى سابقاً، بل كان أقل تضرراً من كثير من دول العالم الأول التي هددت الأزمات اقتصاداتها بعنف، بل هددت كثيراً من مدنها بالتحول إلى مدن أشباح في ظل حالة جفاف نقدي عصفت بها، لكن السياسات الاقتصادية الحكيمة لبلادنا، كان لها بعد فضل الله وتوفيقه دور كبير في تخفيف حدة آثار هذه الأزمات على بلادنا، أيضاً السياسات المصرفية المنضبطة والاحترازية لمصارفنا، كانت صمام أمان لها في مهب هذه العواصف.

بقي أن نلفت نظر إخوتنا إلى أن كثيراً من أزماتنا المالية الشخصية يحكمها سوء إدارة السيولة المالية التي في حوزتنا، وفي المقابل فهناك كثيرون منا لا يشعرون كثيراً بوطأة الأزمة الاقتصادية هذه التي نتحدث عنها أو غيرها من الأزمات، لا لشيء سوى لسياسة الإنفاق الشخصية المرشدة التي يتبعها هؤلاء، ما يعني في الأخير أنه لم يعد في وسع أحدنا أن يخرج عن السياق الوطني العام ويعفي نفسه من الاضطلاع بدوره في الظروف التي قد تتعرض لها بلاده، أيضاً على الجميع أن يدركوا أن بلادهم قوية راسخة في الأرض تمتلك من الأصول الاقتصادية والسياسات النقدية ما يجعلها قادرة على مجابهة الأزمات العابرة التي لا يخلو الأمر منها دائماً، كل ما في الأمر أنه لا يليق بنا أن نتعامل بتخلٍّ عن بلادنا، وأن نكون بسلوكنا النقدي المرشد أداة في يد الدولة على طريق تعافيها من الظرف الاقتصادي الذي تمر به، فسيمر الظرف، وسيعود الوطن إلى قمة أدائه الاقتصادي المعتاد منه، إن شاء الله، لكن من يدري ربما تكون هذه الضائقة الاقتصادية بداية لمنعطف جديد في سلوكيات الإنفاق لدى الأفراد، وبداية عقد اقتصادي جديد، يدرك فيه الفرد أنه جزء من منظومة الاقتصاد الوطني في بلاده، وليس مفصولاً عنها.

ويبقى هذا الوطن كنزنا الكبير الذي ندخره للمستقبل، والذي علينا أن نعض عليه بنواجذنا، وأن نكون له في الضراء، حتى يكون لنا في السراء عما قريب إن شاء الله.