عقب إعلان تعليق الجولة الحالية من مفاوضات جنيف التي تهدف للوصول إلى حل سياسي للأزمة السورية، نطق وزير الخارجية الروسي سيرجي لافروف بكلمة ناقصة لكنها دقيقة للغاية في وصف وفد المعارضة السورية، فخلال مؤتمر صحفي مع نظيره الفرنسي جان مارك ايرولت انتقد لافروف "السلوك المتقلب" للمعارضة السورية.

وهو حين قال السلوك المتقلب كان يقصد شيئاً آخر غير الجانب الصحيح من الكلمة، كان يقصد ـ ربما ـ أنها لا تثبت على مواقفها، أو تغير رأيها كثيراً، أو تنسحب من المفاوضات قبل الوصول لنتيجة، أو تتحمس لخطوة ما ثم ترفضها، أو غير ذلك من المعاني التي يمكن أن توحي بها العبارة بعد ربطها بالشخص الذي قالها.

وبالنسبة للمراقب الخارجي لهذه المفاوضات، والمطلع على مجريات الأحداث على الأرض السورية، يمكن أن يفهم من كلمة "المتقلب" أشياء أخرى كثيرة، لم يقصدها الوزير الروسي، ويغض بصره عنها لو رآها، فالمعارضة السورية تمارس سلوكاً متقلباً بالفعل، متقلب بالنار، متقلب بين المقابر، متقلب بين المجازر الجماعية، وتحت قصف البراميل، فأي وفد مفاوض يستطيع الحفاظ على رباطة جأشه، ويستمر بالجلوس على الطاولة، فيما تتوالى صور المجازر الجماعية، وصور الجثث المحترقة لمن يفترض أنه يفاوض باسمهم؟ وكيف يمكن له أن يبقى على موقفه من أي نقطة أو أي موضوع، خصوصاً إذا كان يتحدث به فيما تقصف الطائرات أسواقا شعبية في أكثر من مكان في سورية؟

حين أعلن المبعوث الدولي إلى سورية ستيفان دي ميستورا عن إطلاق العملية التفاوضية في جنيف لم يتوقع أشد المتفائلين أن هذه المفاوضات ستصل لتحقيق النتيجة التي يطمح إليها السوريون، وكان أقصى التوقع أن تنجح في فتح ثغرة ما في النفق المظلم، وأن تتمكن من تخفيف معاناة بعض السوريين، أن تنجح مثلاً في فك الحصار عن بعض المناطق وتقليل عدد من سيموتون جوعاً، أو أن تنجح في وقف القصف الهمجي أو تخفيفه، ومع تقدم العملية وتعدد الجولات انخفض منسوب التوقع من هذه المفاوضات، وتراجع الاهتمام الشعبي بها إلى الحد الأدنى، وربما كان لذلك أسبابه الموضوعية الداخلية والإقليمية والدولية، لكن يأتي على رأس هذه الأسباب استمرار النظام في ممارسة إجرامه وكأن شيئاً لم يكن، فهو يذهب للمفاوضات وكأنه ذاهب لمشاهدة مباراة كرة، لا يحمل نفسه أي مسؤولية، ولا يهمه الموضوع المطروح، ولا يفكر في الدخول بأي موضوع جدي، يضيع الوقت بالكلام الفارغ، وعلى الأرض يستمر بما كان يفعله دون أي اهتمام، هو فقط لا يريد أن يقول لحلفائه إنه غير معني بالمفاوضات، ويهمه ألا يقال إنه يرفض الحل السياسي.

أما وفد المعارضة، وبغض النظر عن الآراء المختلفة حوله، وبعض النظر عن تشكيلته وتركيبته، والإضافات التي فرضها الروس عليه وبجواره فهو في موضع لا يحسد عليه، فهو يدرك أن النظام ليس جدياً في المفاوضات، ولم يكن يوماً كذلك، ولن يكون، وبنفس الوقت لا يستطيع الغياب كي لا يملأ الروس الفراغ بـ"معارضة" على هواهم، وكي لا يقول العالم إن المعارضة السورية ترفض التفاوض حول حل سياسي ينهي الحرب ويخفف معاناة السوريين، في الوقت نفسه يفترض بوفد المعارضة أنه يمثل الثورة السورية، الثورة التي ترفض التفاوض مع هذا النظام لأنها تعرفه جيداً، واختبرته جيداً في هذه السنوات الخمس، وبنفس الوقت لا يستطيع سوى أن يمثلها ويدافع عن مطالبها وقيمها وشعاراتها، صحيح أنه يفعل ذلك في المكان الخاطئ، لكن ما من مكان صحيح لفعل ذلك، هو أيضاً يتقلب بين اضطراره لسماع خطابات عن السلام والمصالحة وعن الحل السياسي، وبين تلقيه يومياً لسيل "النعوات"، ومشاهد الموت والدمار.

انسحب وفد المعارضة من المفاوضات، لكنه سيتقلب أيضاً على نار الضغوط الدولية والإقليمية للعودة في جولة أخرى لن تكون أفضل من سابقاتها، سيتقلب بين سوريين سيقولون له: لقد أحسنت صنعاً، نحن لا نريد أن نفاوض المجرم، وبين سوريين سيقولون: تركتنا وحيدين في مواجهة الرصاص، أي شيء تفعله سيكون جيداً.

سيبقى هذا الوفد متقلباً ـمثلنا جميعاًـ ولن يستطيع الثبات على جهة واحدة إلا إذا رحل الطاغية، عندها فقط يمكن للوزير لافروف أن يقول ما يشاء، فالعالم بأكمله سيكون قد ثبت مكانه، وتوقف عن الاهتزاز.