كان الغرب المسيحي في حقبة الحرب الباردة مشغولاً بمحاربة الشيوعية، وكانت رئيسة الوزراء البريطانية مارجريت تاتشر كثيراً ما تردّد في أقوالها: Dead than Red أي "الموت ولا الحمرة" كناية عن الشيوعية المعروفة بشعاراتها الحمراء، وكان هذا المبدأ من أقوى الروابط التي جمعتها مع الرئيس الأميركي رونالد ريجان الذي كان من أشد المناهضين للشيوعية بعد الحقبة المكارثية McCarthyism، وصاحب مشروع حرب النجوم الذي أفضى إلى القضاء على الاتحاد السوفيتي بظهور البيروسترويكا على يد الرئيس السوفيتي ميخائيل جورباتشوف، وانفراط المنظومة السوفيتية، وتصدّع حلف وارسو الذي كان إحدى كفتي الميزان العسكري بين الشرق والغرب في مقابل حلف الناتو في أثناء الحرب الباردة.

في ذلك الوقت لم يكن الإسلام السياسي التقليدي مما ينشغل به الغرب، بل إن كثيراً من الغربيين أنفسهم، (وهنا سأقتصر في إطلاق أحكامي على بريطانيا التي عشت فيها 4 سنوات) لم يكونوا متديّنين، بل كانوا علمانيين ملاحدة، وبعضهم يجاهر بازدراء الدين، وبأنهم لم يذهبوا إلى الكنيسة إلا يوم الزواج لمن تزوج منهم زواجاً كنيسيًّا، ومنهم من يرى عدم تعميد الأطفال في الكنائس وهم رضّع، ويفضّل تركهم حتى يبلغوا الحادية والعشرين حتى تكون لديهم حرية الاختيار Free well في اعتناق الدين الذي يرتضونه حتى ولو كان على غير ملَّة آبائهم وأجدادهم ودين دولتهم. ولم تكن لدى كثيرين منهم حساسية ضد الإسلام، ولا خوف منه، بل رأيتهم يحبّون أن يعرفوا شيئًا عنه، ورأيتهم ينصتون حينما تحدثهم عن الإسلام، ويعجبون بعدله وسماحته وحفظه لحقوق الأفراد بما في ذلك حقوق المرأة المنتهكة في كثير من الشرائع السابقة للإسلام، كذلك يعجبون بمنجزاته الحضارية، وارتقائه بالعلوم بشقيها النظري والتطبيقي، ورأيت في ذلك الوقت إقبالاً على الإسلام من كثيرين منهم، ولا سيما في أوساط الشباب، ومن يُسْلم منهم فإنه يسلم إسلامًا صحيحاً على نهج الصحابة عند ظهور الإسلام، وينقطع عن كل شيء كان يربطه بماضيه الذي عليه دين آبائه وأجداده، ويرجع كيوم ولدته أمه. ويخلصون في الدعوة إلى الله أكثر بكثير منا نحن المولودين في الإسلام، والآتين من بلدان إسلامية.

وفي أميركا علمت أن السلطات المختصة تطلب من الدعاة الإسلاميين المؤثرين الاتصال بعتاة المجرمين في السجون الأميركية، ودعوتهم إلى الإسلام؛ لأن الإسلام في حالة اعتناقهم له يهذّب أخلاقهم، ويحسّن سلوكهم، ويردّهم أسوياء وأعضاء فاعلين في المجتمع بعد إطلاقهم، هكذا كانت حالة الإسلام والمسلمين في الغرب المسيحي. إلا أن هذه الحالة سرعان ما تبدلت بعد قيام الثورة الإيرانية، ودخول كلمة الجهاد في قواميس اللغة الإنجليزية، والظهور المسلح لمشايخ معمّمين وهو يخطبون في النّاس من على منابر المساجد، ويحضونهم على الجهاد في سبيل الله، وبعد حركة جهيمان العنيفة، وظهور القاعدة وعودة الأفغان العرب من أفغانستان، بعد ذلك كله، تنبّه الغرب المسيحي إلى أن هناك وجهاً آخر للإسلام غير الوجه الوديع المسالم الذي ألفوه، وبدأت الصحافة تطالعنا بعناوين بارزة على صدر صفحاتها بمن تصفهم بالمسلمين المتشددين أو المتطرفين.

وأذكر أنه وقع في يدي في مطلع الثمانينات الميلادية كتاب بعنوان: The Dager of Islam (خنجر الإسلام) وعلى غلافه صورة مُلَّة إيراني معمّم يخطب من على منبر، وهو يتكئ على بندقية، والكتاب كله نقد للإسلام، وتخويف منه، وتحذير من عواقبه الوخيمة -على حد قول مؤلِّفه- على الحضارة الغربية، ولم يخب ظن المحذرين من الإسلام السياسي أو المسيّس في الغرب المسيحي، إذ ما بين عشية وضحاها نرى ذلك المسلم الجائع الآتي تهريبًا إلى أوروبا طلباً للرزق والعيش الكريم، أو ذلك اللاجئ السياسي بدينه والخائف على حياته من سلطات بلده، يتحول إلى أمير المؤمنين، وتصبح تلك الديار التي آوته واحتضنته ديار حرب، فتصدّر أبو قتادة الأردني، وأبو حمزة المصري وسواهما شاشات التلفزيونات، وصفحات الجرائد، وأطلقوا الفتاوى التي تدعو إلى الجهاد، وتحضّ حتى على قتل الأطفال إيلامًا لقلوب آبائهم المخالفين لهم كما حدث في الجزائر. فكانت كارثة أحداث 11سبتمبر، وتبعتها كوارث أخرى في معظم دول أوروبا الغربية في الأسواق، ووسائل المواصلات، وأمكنة الترفيه، وطُعنت وزيرة خارجية السويد وهي تتبضع في أسواق بلدها، وذُبح رجل بريطاني (قيل إنه رجل أمن) على قارعة الطريق في ضحوة النهار في لندن، ذبحه مسلم أسود، ووقف أمام شاشة التلفزيون ويده التي يحمل فيها ساطورًا ملطخة بالدم ليبررّ فعلته، وتحوّل الخطاب في (الهايد بارك كورنر) إلى خطاب جدلي بين المسيحية والإسلام بعد أن كان خطاباً سياسياً واجتماعيا ممتعاً، فكانت تلك الأحداث بمثابة من ينبّه نائما إلى خطر قادم على الحضارة الغربية من أدعياء الإسلام السياسي أو المسيّس، وبدأت الأصوات تتعالى ضد الإسلام والمسلمين في كل مكان من الغرب بعد أن كانت تلك الأصوات لا تُسمع إلا همساً، والأخطر من ذلك أنها أخذت في بعض الأحيان صفة العموم ضد الإسلام والمسلمين، لدرجة قيام حركة مناهضة للإسلام والمسلمين في أوربا تطلق على نفسها (حركة بيغيدا) تابعنا مظاهراتها في وضح النهار في ألمانيا وفرنسا، ودعوة رئيس الوزراء البريطاني دايفيد كامرون إلى أن تتحد بريطانيا وأن تدافع بفخر عن قيمها المسيحية في وجه التطرف الإسلامي.

والأخطر من ذلك كله أن تكون مناهضة الإسلام والمسلمين شعاراً انتخابياً في أميركا، وهو ما لم يجرؤ عليه أحد في تاريخ الديموقراطية الغربية سوى المرشح الجمهوري دونالد ترامب الذي يحصد الآن الكثير من الأصوات المؤيدة له من أنصار الحزب الجمهوري في أميركا، وقد يفوز بالانتخابات الرئاسية في نوفمبر المقبل، وهنا مكمن الخطر، فيا عقلاء الإسلام أدركوا الإسلام في الغرب ليس خوفاً عليه، فهو محفوظ من عند الله سبحانه وتعالى، وإنما رحمة ورأفة بالمسلمين في تلك البلاد القصيّة حتى لا يُضاروا في أرزاقهم ومعاشهم وأمنهم الذي أصبح مهددًا، وقولوا لهؤلاء المغرّر بهم من شباب المسلمين الذين يحدثون الفوضى في كل مكان من العالم: إن الإسلام حينما انتشر في إندونيسيا والصين وغرب إفريقيا لم ينتشر بالعنف والتفجير، وإنما انتشر بالتجارة والاتصال الحضاري، والسلوك القويم، والمعاملة الحسنة، والقدوة الصالحة والدعوة الصادقة، ولو أن ما أُنفق من أموال في الغرب على العنف والتفجير أُنفق في سبيل الدعوة إلى الله بالتي هي أحسن لرأيت المآذن تصدح بالتكبير في أنحاء كثيرة من دوله في أوروبا وأميركا، ولانتشر الإسلام فيها انتشار متسارعاً وغير مسبوق.