أكاد أجزم أن عقول معظم الأغنياء العرب وضمائرهم حبيسة عالم "ألف ليلة وليلة"، حيث الجواري الحسان ووسائد الحرير والأسرة المذهبة والأرضيات المرصعة بالزمرد والياقوت، وأن "شهريار" بكل عاهاته النفسية واضطراباته العقلية، هو المهيمن على ثقافة ووجدان أغنياء العرب، إلا ما رحم الله. حفلات بذخ وإسراف وتبذير فارغ من كل قيمة ومعنى، سفريات تستنزف الملايين، استعراض فارغ بالسيارات المذهبة والمقتنيات الباهظة، والكثير الكثير من الأفعال التي تدل على أننا أمام فئة من المجتمع تمتلك كثيرا من المال والمشكلات النفسية المعقدة!
لماذا كل هذا البحث الدؤوب عن الفخامة والوجاهة ورفعة الشأن، إن لم يكن هناك إحساس عظيم بالنقص؟!
الاحترام من أبرز السلوكيات التي لا يمكن شراؤها بالمال أبدا، والغريب أن معظم أغنياء العرب لا يبرعون في خسارة شيء باستخدام المال أكثر من الاحترام! يطلون على مجتمعاتهم بمظاهر الرفعة والأبهة والعظمة، غير مدركين أنهم بهذا المظهر تحديدا يخسرون قيمتهم في المجتمع، وإن أقسم المتنفعون حولهم بأغلظ الأيمان أن لهم بقايا احترام.
لست هنا لأقول لأغنياء العرب أين أنتم عن معاناة الفقراء، عن مداواة المرضى، عن قضايا المجتمع من سكن وتعليم وصحة، عن دعم الاتجاهات الثقافية والعلمية، إنما لأقول: إنْ كان أنين الفقير خطيئة قام بارتكابها المجتمع، فإن قهقهة الغني خطيئة أعظم، والجاني أيضا هو المجتمع، الجاني هو سوء توزيع الثروة، الفساد وغياب الضمير، الجاني دوما نحن بكل انتماءاتنا وأطيافنا، عليه يكون الغنى الفاحش رذيلة اجتماعية، ودلالة الفحش أن معظم الأغنياء العرب فقراء إنسانيا، وفقرهم في هذا الجانب مدقع.
إنهم خلل نتج حين بات شعار كثيرين منا "يا ليت لنا مثل ما أوتي قارون إنه لذو حظ عظيم"، ولو لم يكن هذا شعارنا لما تمحورت كل اهتمامات الأغنياء حول النظر في المرآة، ولما باتت قبلتهم ذواتهم، ولما أصبح التباهي شغلهم الشاغل، معظمنا للأسف يطربه أن يرى الأغنياء يبذرون الأموال وهم يجيدون الدندنة على هذا الوتر، معظمنا ينتشي بمظهر الترف وهم يملكون أدوات هذا التمظهر، معظمنا أقام الدنيا ولم يقعدها بسبب دهن اليد بالعود وخيشة هيل بين أرجل الضيوف، ثم تمايلنا طربا لرؤية الأغنياء وهم يحرقون الأموال في حفلات بذخ وإسراف مخجلة!
نحن من إذا بذّر متوسط الحال فينا وبعثر، طالبنا بمحاسبته، ونحن من إذا قام الغني فينا و"بعزَق" الأموال بكل سفه، قلنا هذا ماله وهو حر!
نأمر بالمعروف إذا ما ارتكب الفقير منكرا، ونرتكب منكرا حين نتعامل مع إسراف الغني بأنه معروف.
الخلل أولا وأخيرا فينا، نحن من ألزمنا الأغنياء أن يتباهوا علينا كما ألزمنا الفقراء أن يتذللوا لنا.
لكن، ومن باب الأمانة، في العرب من الأغنياء من له إسهامات جليلة في خدمة مجتمعاتهم، والقائمة تطول، فمنهم من أسهم في تمويل مشروعات خيرية، ومنهم من يلتزم بدفع الزكاة، ومنهم من أنشأ جمعيات لمعالجة المرضى.. إلخ.
الحديث ليس عن هؤلاء الذين لا يحتاجون إلى حديث، فأجرهم على الله، إنما الحديث عن الأغنياء الذين جاء بعضهم إلى الدنيا بملعقة من ذهب، وبعضهم الآخر لم يتعب إنما ورث الثراء، وثلة عصاميين من لصوص مال عام، عن هؤلاء الأغنياء الذين يحرقون الأموال لأنهم لم يتعبوا من أجلها.
هذه النوعية من الأغنياء، يميزهم دوما أنهم يظهرون بمظهر المتأثرين بروح العصر، المتحضرين، رغم أن هذه العصرنة وكل هذا التحضر ليسا إلا قناعا يخفي حقيقة أنهم أسرى قصص الجواري ووسائد الحرير، لا شك أنهم يجيدون تمثيل دور المتحضر رفيع الشأن، يتحدثون بلباقة وبأكثر من لغة، يرتدون أغلى الماركات ولهم شركات، وربما يعقدون الندوات للحديث المنمق عن أسس النجاح، إلا أن التحضر والرقي أساسه العطاء تجاه المجتمع، فإن كان الأساس غائبا فما بقي ليس إلا شكليات فارغة. يتأثرون بالحضارة الغربية، يتحدثون لغتها، يمتلكون منها فقط ما يغذي عللهم النفسية، يتحدثون ويتصرفون ويأكلون ويشربون كما يفعل الغرب، يقتدون بهم في كل شيء لا يفيد مجتمعاتهم في أي شيء! أما ما يفيد المجتمع حقا، فهم أبعد الناس عنه، فممارسة الهمجية تحت رداء التحضر لا تجعل الإنسان متحضرا، وتبذير الأموال باستخدام أدوات العصر لا تنفي صفة التخلف، وإمداد الإعلام بقصص النجاح لا تعني أن لهم في الواقع الاجتماعي أي وزن، كما أنه لا معنى لبناء شركات تعتمد بالكامل بل وتبارك إبقاء أفراد المجتمع في حالة استهلاك وتخلف دائمين.
أثرياء الغرب والعالم يتنافسون اليوم على أعمال الخير، لأن هذا طريق التحضر، بعضهم يتبرع بنصف ما يملك، وبعضهم يزيد، وأكثرهم يعيش كما يعيش بقية الناس، يرتدي كما يرتدي البقية، ويأكل كما يأكلون، ويركب المواصلات العامة شأنه شأن الآخرين، بينما أثرياء العرب المرتدون قشرة الحضارة الغربية، يكنزون المال فقط من أجل ذواتهم، يربون أبناءهم على كيفية حلب مجتمعاتهم قدر المستطاع، ثم التباهي أمام من قاموا بنهبهم، لكن، وكما قال أحدهم: يا فقراء لماذا التشكي؟ ألا تستحون؟ ألا تخجلون؟ دعوا الأغنياء ولذّاتهم، فهم مثل لذّاتهم زائلون.