استكمالا للمقالة السابقة التي حملت عنوان "احمد ربك إذا قبلوك لغة عربية" التي عرضت فيها مشكلة تكدس الطلاب في أقسام اللغة العربية في جامعاتنا، مع عدم رغبتهم في دراسة التخصص، أقول: إن الوقت حان لمراجعة نتائج تلك التجربة، والعمل على تطويرها، بدلا من ترك الوضع على ما هو عليه.
ويمكن أن يتم ذلك خلال الاستعانة بالدراسات المسحية الموجهة، وبالباحثين الجادين، مثلما يمكن الاستفادة من تجارب أعضاء هيئة التدريس في هذا الشأن.
إن التأمل في المخرجات التي انتهى إليها هذا القسم في جامعاتنا، يُحمّل القائمين على التعليم الجامعي مسؤولية كبيرة، يصبح البحث فيها عن بدائل أكثر جدوى خيارا لا بد منه. فالطلاب الذين يلتحقون بالقسم لأنه -فقط- البديل المتاح، لن يحققوا استثمارا جيدا للمجتمع ولا للغة العربية، والدليل أننا نجد كثيرا منهم جعل من هذا التخصص طريقا للتحويل إلى قسم آخر بعد تسجيل معدلات مرتفعة تتيح له فرصة التحويل.
اتخاذ الطلاب خطوة التحويل لاحقا، يؤكد أن التجربة -في ذاتها- لم تنجح في وضع الطالب المناسب في التخصص المناسب، لأن الطالب يبذل قصارى جهده في هذا التخصص "المحطة" ليتمكن من التحويل إلى القسم الذي كان يرغب فيه منذ البداية، وهكذا فإن القسم "المحطة" يخسر الطلاب المجدين أصحاب الهمم العالية، ولا يبقى فيه من طلاب "عدم الرغبة" إلا الفئة التي لم تنجح في الحصول على معدل التحويل المطلوب، مما يزيد العبء على القسم وعلى الطلاب أنفسهم، ويحرم طلاب القسم الذين التحقوا به عن رغبة، فرصة الدراسة في أجواء صحية يتمتع بها طلاب الأقسام الأخرى.
ولعله من الواضح للعيان، أن إجبار الطلاب على المرور بمحطة "اللغة العربية" التي هي في الأساس مادة إجبارية يدرسها طلاب معظم الكليات، لا يضيف إلى الطلاب ولا إلى القسم شيئا، إنما يغدو بمنزلة وضع حجر ضخم في طريق العابر، يظل يزحزحه عاما أو عامين حتى يتخلص منه ويسير حيث شاء. وفوق ذلك، فإن هذه الخطوة تغدو هدرا لكل الدورات التدريبية التي تحصّل عليها الطلاب في التعليم العام، وكانت تركز على تعليمهم أصول اختيار التخصص الجامعي، وتؤكد أن الرغبة والميل هما أول ركائز النجاح في أي تخصص.
في الواقع، طلابنا يمرون بمراحل دراسية طويلة، ثم يدخلون تصفيات امتحان القدرات، والسنة التحضيرية، وحين يجبرون على دخول قسم لا يرغبونه، ويتحولون عنه لاحقا، فإن ذلك يزيد مشوار دراستهم طولا بلا طائل.
لذا، أجد أن من المناسب استبدال تلك الخطوة بخطوة أفضل، يمنح فيها الطالب الثقة التي يستحقها، وذلك بأن يتم قبوله في التخصص الذي يرغبه، تحت مسمى "طالب احتياط"، ثم يُعطى فرصة عام كامل للحصول على معدلات عالية في التخصص المرغوب، فإذا لم يثبت قدرته يتم تحويله إلى آخر تخصص في قائمة رغباته التي يحددها وقت التحاقه بالجامعة.
هذا الإجراء هو ما يتناسب مع ما تطلبه الجامعات من الطلاب عادة عند تسجيلهم، إذ تطلب من كل طالب وضع قائمة بالتخصصات التي يرغب فيها؛ مرتبة حسب الأولوية، وحين يكون البديل الوحيد الذي تطرحه الجامعة هو قسم اللغة العربية، فإن وضع الطلاب لتلك القوائم يصير عبثا لا فائدة منه، ومثل ذلك لا يصح في التعاطي مع جيل تحاول الجامعة أن تربيه على تجنب العبثية، وإذا كان قد قُدّر للطالب أن يمضي عاما في الجامعة في قسم لا يريده، قبل أن يتحول إلى القسم الذي يريده، فلم لا يمضي هذا العام في تخصصه المرغوب؟ وذلك أدنى إلى اختبار قدراته في التخصص الذي اختاره بملء إرادته!
إن هذا الإجراء -إن تم اعتماده- سيوفر على الجامعات تكاليف باهظة تتحملها من تحويل الطلاب وزيادة سنوات دراستهم فيها، مثلما أنه يمنح طلابنا الكبار الثقة والفرصة، ولذلك أهميته في تكوينهم النفسي وتنشئتهم الوطنية.
هذا الإجراء يمكن اختباره على بعض الجامعات والنظر في نتائجه التي أظنها ستكون جيدة أو -على الأقل- أفضل من تسرب الطلاب بسبب الإجبار على تخصص ما، وأهون من تحمل القسم وطلابه وضيوفهم كل تلك الأعباء التي يتحملونها حاليا.