في عمليات التحديث المستمرة دائما يعود التفكير حول المجتمع السعودي ومدى تحولاته الثقافية والاجتماعية إلى الفكرة المطروحة حول التحضر والبداوة كثنائية عربية تحد من عمليات التحديث، ولكن في رأيي أن الوضع يختلف نسبيا من خلال طرح إعادة "مفهمة" التحضر والبداوة ومدى تداخلهما في الجزيرة العربية، وبالعودة إلى ابن خلدون الذي كان أول من طرح فكرة الحضارة والبداوة فإن مفهوم البداوة في مقدمته أو البدو تحديدا "هم المنتحلون للمعاش الطبيعي من الفلح والقيام على الأنعام، وأنهم مقتصرون على الضروري من الأقوات والملابس والمساكن وسائر الأحوال، ومقصرون عما فوق ذلك من حاجيّ أو كماليّ يتخذون البيوت من الشعر والوبر أو الشجر أو من الطين والحجارة غير مُنجّدة..."، ومن الملاحظ هنا أن ابن خلدون يعطي نمطين من أنماط البادية هما: النمط البدوي المستقر، والنمط البدوي المترحّل، من خلال ركيزتين يعتمد عليهما ابن خلدون في فهمه للبداوة: الأولى: ركيزة الإنتاج من خلال مظهرين: الزراعة (الفلح) للنمط الأول، والرعي (القيام على رعاية الماشية) للنمط الثاني، وثانيها: ركيزة الاستيطان من خلال مظهرين كذلك: الترحل (الشعر والوبر) للنمط المترحل، والاستيطان: (الطين والحجارة) للنمط المستقر، لذلك يظهر نمطا ابن خلدون متداخلين في وصفه للحالة البدوية التي يضعها في مقابل الحالة الحضرية التي هي أقرب إلى الغنى والترفه في العيش والسكن في المدن، وتخطيطها والتوسع في البناء، والعمل في النشاط الصناعي أو النشاط التجاري وغيرها.

هذه الملاحظة يركز عليها الدكتور سعد الصويان في دراسته حول الصحراء العربية وثقافتها، معتبرا "أن ابن خلدون يشمل تحت مسمى البدو حتى الفلاحين المستقرين في قراهم الزراعية المتناثرة في أجواف الصحاري العربية. بينما يحصر مسمى الحضر على أهل المدن والعواصم" (الصحراء العربية. ص 324)، ويُرجِع الصويان المفهوم الخلدوني للبدو إلى تطابق نظرته مع نظرة أهل الهلال الخصيب للبداوة في العصور القديمة، فقد كانوا ينظرون إلى ساكني الجزيرة العربية بأنهم من البدو لاعتماد معظم أهلها على الإبل التي لم تكن عند أهل الهلال الخصيب، لتمتد هذه النظرة من تلك العصور حتى عصر ابن خلدون، ومن ثم إلى عصرنا.

ويبدو أن النظر إلى مفهوم البداوة لدى بعض الدارسين العرب المعاصرين يتفق مع الملحوظة السابقة حول مفهوم البداوة الخلدوني الذي يجمع بين الاستقرار والارتحال والرعي والزراعة، فمحمد الحداد مثلا يطرح مشكلة التعميم والأحكام الذاتية والانطباعية في الأدبيات التي تتناول مفهوم البداوة، فالدراسات حسب وجهة نظره أثبتت أنه ليس كل من سكن الخيام هم من البدو، بحكم أن كثيرا منهم مستقر له نشاطاته الزراعية والتجارية مع المدن القريبة منه، طارحا اتجاهين في معالجة مفهوم البداوة: الأول يعيد البداوة إلى حياة التجوال الموسمي بحثا عن مصادر الرزق والرعي، والثاني: يربط البداوة بالجماعات ذات السلالة الممتدة بغض النظر عن استقرارها أو ترحلها، لكن يَرجِع ويقرر أن أكثر الباحثين يميلون في مفهوم البداوة مع الاتجاه الأول (محمد الحداد وآخرون: تراث البادية. ص 29).

ومن الواضح أن هناك اضطرابا في تحديد مفهوم البداوة بسبب طبيعة الحياة التي يعيشها البدو ما بين الرعي أو الزراعة والاستقرار والارتحال، فيذكر حليم بركات الذي ساق عددا من الاختلافات في تصنيف البدو لدى بعض الباحثين، أن منهم من يصنف البداوة على جماعتين: بداوة تجنح إلى الارتحال وطلب الرعي من خلال التركيز على تربية الإبل بدرجة أولى، وبداوة تجنح إلى الزراعة بدرجة أولى والرعي بدرجة ثانية، في حين صنفهم آخرون على ثلاث جماعات حسب توغلهم في حياة البداوة وهم: أولا: الرعاة الرحل الذين يتنقلون لمسافات بعيدة، وينصب اهتمامهم بتربية الإبل والماعز والبقر بدرجة أقل، وثانيا: أنصاف الرعاة أصحاب الزراعة في الواحات والقرى مع اهتمامهم بالرعي في مواسم الربيع، ويكون ارتحالهم إلى مسافات قريبة، أما الصنف الثالث: فهم الذين تحولوا إلى الزراعة من العشائر التي استقرت بعد أن كانوا بُداة مع تربيتهم بعض المواشي بالدرجة الثانية، كما يذكر أن هناك تصنيفات أخرى تهتم بالأصول الاجتماعية، بحسب تعصبها للنسب أو عدم تعصبها، إضافة إلى تصنيف آخرين إلى استعمالهم الأرض من خلال الترحال العمودي في المناطق الجبلية حسب المواسم نزولا إلى السهول أو صعودا إلى الجبال، ويهتمون بتربية الأغنام، والترحال الأفقي، وهو أكثر اتساعا من خلال التوغل في الصحراء، ويهتمون في تربية الإبل. (حليم بركات: المجتمع العربي في القرن العشرين ص 188-191). وفي رأيي أن المجتمع السعودي دخل مراحل عديدة، فابتعد عن مرحلة البداوة، لكنه حتى الآن لم يدخل في مرحلة الحضارة أو المدينة التي تفترض شروطا عديدة في فهم التحولات الاجتماعية والسياسية والدينية، فهو مجتمع بين بين كما يقول عبدالسلام بن عبدالعالي، وهذا موضوع آخر سيكون الحديث عنه لاحقا.