عبدالرحمن آل دبيش


قد تجد من لا يحمل شهادة علمية، وبرع في مجال من مجالات الحياة، كأعمال التجارة مثلا، بعكس متخصص في علم الاقتصاد ونظريات إدارة المال، فتصاب بالدهشة وأنت تقارن بين المستوى العملي المتحقق لكل منهما، فالمتخصص في علم الاقتصاد قد يكون مثقلا بالديون، وأسيرا لسطوة الاقتراض، وهو مع ذلك يعرف التفاصيل الدقيقة لذلك التخصص، دون أن يجاوز المعرفة إلى مرحلة العمل؛ التي هي ثمرة كل علم، وكأنه اكتفى بالمعرفة عن تطبيقها الضامن لجني ثمارها، في حين يتربع الآخر المفتقد للنظريات الاقتصادية على عرش الإنجاز والتحصيل، وفقا لخبرته المكتسبة ونظرياته الخاصة التي صاغها من واقع مباشرته الفعلية لميدان العمل.

فالعلم بلا عمل هو المثبط الفاخر لعجلة الإنتاج وإن بدا لنا بغير هذه الصورة، فقد ورد في الأثر الاستعاذة من علم لا ينفع، إذ لا يمكن لأي علم أن يكون نافعا ما لم يقترن بعمل يجليه للعيان ويرسم مسارات تأثيره على أرض الواقع.

فبدون العمل يصبح العلم بضاعة مزجاة يتعاطاها أصحابها حيث قعد بهم عجزهم عن التطبيق.

فالاقتصادي النظري الذي لا يعود ريع علمه على رفع مستواه المعيشي من واقع التطبيق العملي؛ ليس حريا بالالتفات إلى نظرياته الجامدة، إذ تتضاءل فرص التأسيس على ضوئها لاقتصاديات فعالة، بدليل عدم انعكاسها الإيجابي على مستواه الاقتصادي.

فقد تكتسب الفائدة المدعمة بالخبرة من رجل أعمال استوحى نجاحاته من خبرات عملية، جسدها رجال أعمال لم تدر بخلدهم يوما مصطلحات الاقتصاد العلمية، وإنما صنعوا نظريات ذاتية من وحي أعمالهم؛ تعتمد على تجاربهم الذاتية وخبراتهم الشخصية، فهم أولى بالمتابعة والبحث في ثنايا تجاربهم عن سر نجاحهم وتفوقهم، من أولئك المنظرين السادرين في خضم النظرية المنكفئة عن العمل.

فالتجارب الفردية لعمالقة الثراء في العالم؛ لم تكن في معظمها منبثقة من كليات الاقتصاد، وما تقدمه من نظريات، بل اعتمد أصحابها على استخراج نظريات ذاتية مردها إلى مصاولة الواقع والدخول في تفاصيله.

ولست هنا متحاملا على ما يقدمه علم الاقتصاد الحديث من نظريات جديرة بالتقدير إن اقترنت بالعمل الجاد والعزيمة الصادقة، إلا أنها بدون العمل تظل جسدا بلا روح لا يبعث الحياة فيه إلا العمل.. والعمل فقط.

فالمدهش حقا أن نجد القائمة الأولى من أثرياء العالم -في غالبهم- تحولوا من الدراسة في جامعاتهم إلى سوق العمل وميدان التحدي، حتى شيدوا إمبراطوريات اقتصادية بلغ تأثيرها مناكب المعمورة متجاوزة المحلية والإقليمية إلى تخوم العمران وحيث يتواجد الإنسان. فسارت مسار الليل، حتى لا تجد منزلا إلا وقد ترامى نتاجها في أحنائه وتجاول اسمها في أرجائه، فحق لمثل هذا المجد أن يذكر وهذا النبوغ أن يشهر، وهذه التجارب أن تحتذى، فهي بلا شك أنفع من نظريات عائمة، يعوزها التطبيق، ويسلبها الزمن المتحول بريقها ورسوخها، أمام تجارب عملية، تناهت إلى الغاية من الجدوى والحضور، حتى أصبحت مدار الاستيحاء لكل طالب نجاح.