حينما أسس إسماعيل الصفوي دولته في مطلع القرن العاشر الهجري وضع نصب عينيه فرض المذهب الشيعي بالقوة على جميع المسلمين، وبدأ بالأقاليم الفارسية التي تعامل مع أهلها بأقسى ما يمكن تصوره من الوحشية في سبيل إجبارهم على اعتناق هذا المذهب، وبلغ من بطشه أنه كان يقتل من يترضى عن الصحابة من عامة الناس فضلا عن علمائهم، وكان له مشَّاؤون في الأسواق يسمون أنفسهم التبرائيين، يصيحون في كل مكان بلعن أبي بكر وعمر، ويجب هنالك على كل مستمع أن يُؤَمِّن على لعنهم، ومن لم يفعل يعاقب بجز رقبته.

أعجَبَت إسماعيل الصفوي كثيرا فتوى العالم السنِّي سبط التفتازاني من علماء مدينة هراة: أنه يجوز لعن الشيخين تحت وطأة الإكراه، وهي الفتوى التي أنقذت رقاب الكثيرين من خطباء المساجد من السنة في ذلك الحين، ولمَّا دخلت جيوش إسماعيل الصفوي مدينة هذا الشيخ العظيم استمر في خطبته للجمعة، كما كان قبل حكم الشاه إسماعيل، فترضى عن الخلفاء الراشدين أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، فلم يكن من زبانية الشاه إلا أن أحضروه بين يدي طاغوتهم، الذي سأله متعجبا: كيف تفتي بجواز لعن الصنمين ولا تلعنهما، فأجاب: إنما أفتيت بجواز لعن الشيخين للضرورة، أما أنا فأعمل بالعزيمة ولا أبيح لنفسي العمل بالضرورة لأنني قدوة، فما كان من الشاه إلا أن أمر بقتله -رحمه الله رحمة واسعة وقبله في الشهداء- وأكثر في أمة محمد -صلى الله عليه وسلم- من أمثاله.

كان حلم إسماعيل أن تستولي قواته على مراقد الأئمة، ونشر التشيع في العراق والشام وجزيرة العرب بالطريقة نفسها التي سلكها في نشر دعوته في بلاد فارس، وهي السيف والقِدْر، نعم القِدْر، حيث تروي بعض المصادر أنه كان يطبخ خصومه في القدور، وكانت أمه الرؤوم من أبرز من ذاق الموت بهذه الطريقة الهمجية، لا لشيء فعلته إلا لأنها كانت سنية المذهب.

كان الأتراك العثمانيون حجر عثرة يحولون بين هذا الطاغية وبين أمنياته، فما كان منه إلا أن تعاون مع الروس والمجر وحكام أوروبا في سبيل إضعاف هذه الدولة التي كانت تهدد عروش أوروبا بكاملها، فلم يجد آل عثمان بدا من تجريد العساكر إليه وهزيمته في موقعة جلديران في الرابع من رجب عام 920هـ، تلك المعركة التي استولى بعدها السلطان سليم الأول على عاصمة إسماعيل الأول تبريز، وتوقف من آثارها المدُّ الصفوي قرنا كاملا من الزمان حققت الخلافة العثمانية في أثنائه تقدما كبيرا في الفتوحات في أوروبا، حيث وصلت إلى فيينا عاصمة مملكة النمسا مرتين ولم يعق تقدمها  في رفع لواء الإسلام في أوروبا إلا عودة المد الصفوي في عصر عباس شاه الكبير عام 1032هـ، إثر العروض السخية التي قدمها الشاه للإسبان بالتعاون وإياهم لتقاسم الدولة العثمانية، فيكون للإسبان أجزاء الدولة الأوروبية وللصفويين أجزاؤها الآسيوية.

لكن هذا الحلف القذر لم ينتج عنه حقا إلا ضعف الدولتين كلتيهما لصالح الذئب الأوروبي الذي ظل يؤجج الصراع بينهما كي يوقف الفتح الإسلامي في أوروبا، ويُمَكِّن لحملات التنصير وجحافل الاستعمار التي كانت تنتهز كل فرصة نزاع بين الطرفين لالتقام ساحل أو عاصمة أو سلطنة من ممالك المسلمين.

ولم يعِ الصفويون الدرس إلا مؤخرا، وذلك في عهد الشاة صفي الذي تولى الحكم بعد جده عباس الأول، وكان الشاه صفي أحد من ذاق مرارة المظالم الصفوية، إذ رأى ما فعله جده عباس بأبيه وأعمامه من سمل أعينهم جميعا، ومن ثَمَّ قتَلَهم ليموت وليس له وريث من أولاده، فورث عرشه حفيده سام ميرزا الذي غير اسمه ليوافق اسم أبيه المقتول على يد جده.

ومع أن الشاه صفي أو سام ميرزا تجرع ظلم ذوي القربى ولمَّا يتجاوز التاسعة من عمره إلا أنه لم يكف عن إذاقته جميع قرابته من الكأس نفسها التي شرب منها، فسمل أعين الجميع كي لا يكون أي منهم مؤهلا للملك بعده.

توقفت في عهد هذا الشاه محاولات المد الصفوي، وذلك في معاهدة قصر شيرين التي وقعها الشاه مع السلطان العثماني مراد الرابع، ولكنها للأسف جاءت متأخرة، حيث عقدت بعد أن فعل الحلف الصفوي الصليبي بالدولة العثمانية فعله، فتراجعت رقعة دولة الإسلام في أوروبا، واحتل النصارى أهم السواحل والمضايق الإسلامية لتأمين حركتهم التجارية وتعطيل نمو  المال الإسلامي.

ذكرى جلديران لم تزل تعتقد في خاطري منذ أن بدأت المملكة العربية السعودية في تيّم المد الصفوي، بدءا بتخليص مملكة البحرين من المد الصفوي، وليس انتهاء -إن شاء الله- بما يجري الآن في اليمن من تقليم لأظافر الصفويين، فالمد الصفوي الحديث يحتاج إلى وقفة حاسمة من الدول الإسلامية لا تقل أثرا عن وقفة جلديران وإن كانت حتما تخالفها في الأسلوب.

جلديران الجديدة وإن كان سلاح البندقية مهما في عدد من مواطنها، إلا أن السلاح الأكثر فاعلية فيها هو الفكر والقلم واللسان والتخطيط البعيد المدى المؤيد بالمال، ولذلك فجلديران الجديدة عاصفة سلمان الحزم، مرشحة لتكون أكثر خطرا وأعمق أثرا على الحاضر والمستقبل من جلديران التي قادها السلطان سليم الأول وإسماعيل الأول.

إن التأخر في مجابهة الأسلحة الصفوية الفكرية بما يماثلها كان هو السبب الأول فيما حدث بالأمس في اليمن وفي البحرين، وما يخطط له في الكويت والسعودية وقطر والإمارات وعمان.

لجأنا بالأمس إلى قواتنا المسلحة كي نحسم الأمر في اليمن، وكان التوفيق حليفنا والحمد لله تعالى، ولجأنا إلى قوات درع الجزيرة وحالفنا التوفيق بفضل الله، لكن توفيقنا في اليمن في تلك الجولة الأولى لم يكن حسما للمعركة، وتوفيقنا في البحرين لم يكن هو أيضا حسما للمعركة، وأعتقد أيضا أن توفيقنا بعون الله في عاصفة الحزم لن يكون حسما نهائيا للمعركة، والسبب في ذلك أن ساحات القتال في جلديران الجديدة ليست هي الميدان النهائي للمعركة.

إن ميدان جلديران الجديدة الأهم والأكثر حسما وحزما يقع في المعاهد الدينية والكليات الشرعية ومكاتب الدعوة في الداخل والملحقيات الدينية في سفاراتنا الوطنية، وفي المراكز الإسلامية العالمية وفي شاشات التلفزيون ومواقع الإنترنت، وغرف البالتوك، والصحافة الورقية والإلكترونية، هناك فقط يقع الميدان النهائي لجلديران الجديدة، وهو الميدان الذي يشغل الصفويون حتى الآن الجانب الأكبر منه.

إن آلتنا العسكرية والسياسية والاقتصادية قد اشتغلت في جلديران الجديدة شغلا محكما بشهادة الجميع، لكن آلتنا الفكرية والثقافية لا تزال متواضعة إلى حد مقلق ومثير للاستغراب.