في أواخر مارس المنصرم أعلنت شركة مايكروسوفت الأميركية اعتذارها للجميع عن التعليقات العنصرية والتغريدات المسيئة التي قالتها Tay "تاي" عبر برنامج التواصل الاجتماعي تويتر، والتي أثارت غضب الكثير من المستخدمين. و"تاي" لمن لم يسمع بها من قبل هي نموذج لإنسان ذكي "روبوت" أطلقته "مايكروسوفت" يجسد شخصية فتاة افتراضية مراهقة في الفترة العمرية من 18 حتى 24 سنة، وبإمكانها التفاعل مع مستخدمي تويتر من البشر الحقيقيين والدردشة معهم. لكن ما تعرضت له "تاي" من إفساد حسب تعبير مسؤول الأبحاث في الشركة بيتر لي كان سببا لأن تتبنى وجهات نظر عنصرية في فترة وجيزة من تفاعلها مع مستخدمي فضاء تويتر، وجعل من تعليقاتها وإجاباتها العنصرية والقاسية سببا لغضب واستهجان الكثير، ودافعا للشركة لأن تقوم بإيقافها عن العمل وحذف حسابها في تويتر بعد 24 ساعة فقط من البدء فيه.

لم تقدم "مايكروسوفت" على ابتكار تاي وتقديمها كروبوت ذكي للجمهور الغربي إلا بعد نجاح تجربتها مع الروبوت XiaoIce "شا-وايس" الذي دفعت به للسوق الصينية وتفاعل معها بالدردشة أكثر من 40 مليون شخص بشكل ناجح وسعيد، وقامت كذلك بالمشاركة بنجاح في تقديم جزئي لنشرات الأخبار الصباحية في برنامج مباشر وبدون أي مشاكل تذكر. اعتذرت مايكروسوفت رسميا عن "تاي" وما زالت "شاو-وايس" تعيش بسلام بين الصينيين بذكاء كما أراد لها صانعوها، وبين أقصى الغرب وأقصى الشرق؛ في وسط العاصمة السعودية ترى ما الحال مع الروبوت حصة؟

شاهدت حصة أثناء زيارتي لجامعة الأميرة نورة بنت عبدالرحمن في جولة لمرافق الجامعة مع عدد من الزميلات الكاتبات بدعوة من إدارة الإعلام فيها للقاء ثقافي أكاديمي، شاهدتها تحديدا في صالة تدريب طالبات كلية طب الأسنان، وهي في الحقيقة المرة الأولى التي ألتقي فيها روبوتا ذكيا بهذا القدر، ويتفاعل بالإجابة عن الأسئلة وردات الفعل أمامي مباشرة. الجميل في قصة الروبوت حصة غير اسمها العربي المأخوذ من تراثنا أنها تعد أول روبوت تعليمي مستخدم في الجامعات العربية من نوعه، ويحسب هذا للجامعة التي حرصت على استقطابها بشكل خاص منذ 3 سنوات. تكمن فكرة حصة –بعكس زميلتيها تاي وشاو-وايس- في أنها تعليمية مخصصة لتتدرب عليها طالبات طب الأسنان قبل خروجهن للتطبيق المباشر على المرضى الحقيقيين من البشر، فتستطيع حصة أن تجيب عن أسئلة الطالبة وتخبرها عن موضع الألم وما تشتكي منه، وعند مباشرة الطالبة علاجها تتفاعل معها بطريقة قريبة جدا من طبيعة البشر من الشعور بألم الوخز أو الخوف من الأدوات ومقاومتها.

بالعودة للنموذج الأول من السيدات الروبوتات أعلاه "تاي" نلحظ أنها أُوقفت عن العمل بعد مرور 24 ساعة من تفاعلها مع البشر الذين وضعت بينهم، أولئك الذين في فضاء تويتر والذين تتنوع أفكارهم ومقاصدهم في الدخول له، والذين تتهمهم إدارة شركة مايكروسوفت أنهم أفسدوا "تاي" بتغذيتهم لها بمعلومات وأفكار سيئة وعنصرية غير ما غُذيت به في الواقع عند تصميمها، مما يعني أن استمرار بقائها في هذا الفضاء لمدة أطول يعني مزيدا من الإفساد و"التوجيه" نحو تعامل غير لائق مع البشر. بينما تلك التي دُفعت للمتلقي الصيني ما زالت حتى الآن تتفاعل مع ذلك الجمهور بطريقة ناجحة ومرضية، ولم تتلق الشركة أي شكاوى "أخلاقية" ضدها. أما الروبوت حصة التي تسكن الرياض منذ سنوات ثلاث وترتدي زيا دراسيا أنيقا، والقادمة من أصول يابانية معتادة على الانضباط والجدية والاختلاف المتميز، فإنها منذ وصولها تعمل على تهيئة وتدريب الطالبات، طبيبات المستقبل، وتأخذ بأيديهن لتجاوز التردد والخوف والقلق من التعامل مع المرضى في أثناء مستقبلهن المهني. وفي هذا التفاوت بين الروبوتات واستجابتها للمؤثرات الخارجية برغم أنها من صنع الإنسان ومبرمجة بطريقة محددة وخاضعة لتوجيه معين فإنها تثير التساؤل عن مدى تأثير البيئة المحيطة على تفكير وسلوك الإنسان. تناولت مدارس مختلفة في علم النفس موضوع تأثير البيئة المحيطة على سلوك البشر، ونهضت عدة نظريات مختلفة حولها، فمنهم من قال إن الطفل يولد صفحة بيضاء خالية من أي مؤثرات وتوجهات فكرية أو سلوكية، ثم يبدأ باكتساب ما يرسم ملامح شخصيته وما يوجه سلوكه مما حوله من عوامل بيئية واجتماعية ونفسية وغيرها. بينما ذهبت مدارس أخرى إلى أن جزءا كبيرا من سلوك الإنسان موروث ومنقول له رغم إرادته من جينات أسلافه، وتشكل مع ما يكتسبه لاحقا من حياته اليومية تكوين شخصيته وسلوكه.

الروبوتات في نماذجنا السابقة تأثرت من المجتمع المحيط بها بالسلب والإيجاب أو بقيت على الحياد رغم آليتها، واخترقتها قوة العادة وتيار الأفكار والسلوك رغم مقدرة الإنسان على تهيئتها مسبقا بما يريد أو إعادة تشكيلها متى ما أراد، أو حتى يفعل كما فعلت شركة مايكروسوفت مع تاي بإيقافها عن العمل أو إعدامها عندما تتجاوز في سلوكها ما لم تصمم من أجله. في الإنسان حتما سيكون تأثير التيارات الفكرية والعادات السلوكية أكثر تمكنا وأثرا في جرف الفرد نحوها وتغيير ما قد تعلمه سنوات طوال من قيم إنسانية نبيلة وأخلاق مكتسبة أو موروثة، إن كان للجينات تأثير في الأخلاق والسلوك. وهذا ما على المربين والحكومات التنبه له ومجابهة سطوة التيارات السلبية والبندولات الجارفة التي تغير سلوك الأفراد نحو مسارات ضارة تمس سلامة الأفراد والمجتمعات.

يقول عالم النفس الشهير فرويد: "إننا مجرد ممثلين للدراما التي تعمل في أدمغتنا، تدفعنا رغباتنا وتجذبنا ضمائرنا"، وما فعلته "تاي" وتفعله الآن "حصة" بين أيدي بناتنا طبيبات المستقبل الرقيقات يقول بما لا يدع مجالا للشك إن العادات في المحيط تؤثر في سلوك وتصرف تلك الأجساد المبرمجة والذكية، فكيف سيكون أثر قوة العادة على سلوك الإنسان وتفكيره وهو الأذكى بلا شك!