وصلني أمس فيديو لا تتجاوز مدة عرضه عشر دقائق، ولكن يزعم صانعوه ومسوقوه أنه يحمل رسالة تحذيرية لشعب هذه البلاد. ملخص الرسالة هو أننا مقبلون على كارثة عسكرية ستودي بنا جميعا إلى التهلكة. عند تحليل ذلك الفيديو فإن مادته أقرب إلى التهديد منها إلى التحذير. فهو يبشر بالعقوبة الإلهية التي سيجرها المترفون ثم يحيلنا إلى سلوكيات فئات من بسطاء المجتمع. تلك السلوكيات التي لا تخلو من كونها أحد أمرين، إما أخطاء مستنكرة عرفاً وقانوناً من قبل المجتمع في الجملة، أو ممارسات تتصادم فقط مع رؤية منتجي الفيلم الضيقة لمفهوم التدين. إذ إن ما ساقه هذا الفيلم والتيار الذي يقف وراءه لا علاقة له إطلاقاً بمفهوم (فسوق المترفين) الذي تشير إليه الآيات التي استشهد بها واستند إليها.
يعبر ذلك الفيديو عن رؤية معزولة عن الاستدلال بالواقع، وعارية من الإدراك اللغوي، فإضافة إلى أن معد الفيلم لم يحاول بيان طريقة تنزيل معاني الآيات التي زامن بها مشاهده على ضوء ما نعرفه من أساسيات اللغة العربية التي نفهمها. فهو أيضاً لم يتذكر نموذج طالبان مثلاً؟ التي أزعم أنها تعبر بالضرورة عن نفس رؤية تياره إلى ما يعتبره من المنكرات والفسوق. ولم يتساءل إذا كان ذلك النهج قد حال دون جر الكارثة على بلادهم مثلاً؟ كما لم يتذكر أيضاً نموذج الدولة المسلمة في ماليزيا، الذي سيصطدم حتماً مع الرؤية الطالبانية في تحديد مفهوم (الفسوق)!
لماذا كنا نرى الكثير من أصحاب الهوى الطالباني يقضون إجازاتهم في ماليزيا ولا يقضونها في أفغانستان؟ لماذا كانوا يتجنبون بلاد الرضا الإلهي وينحرفون عنها إلى الأراضي المستحقة للسخط؟
ذلك لأن الأمر لا علاقة له بما يؤمنون به يقيناً، بل بما يخشون زواله من أيديهم. عرف هؤلاء من قبل أن سلاح الترويع النفسي هو ما يحكمون به قبضتهم على البسطاء، فكثفوا مادة الترويع التي بلغت حد الوقاحة، كما أتصور في هذه المادة الدعائية.
أما لماذا اعتبرت رسالته من باب التهديد وليس التحذير، فذلك لأننا نستطيع التعرف ببساطة على من يشاركون هؤلاء المفاهيم نفسها عن الكفر والفسوق والضلال، وغير ذلك من مفاهيم أعيد تحويرها وتشكيلها بما يتناسب مع تلك الرؤية الظلامية التي لا تستند إلى فهم أو تحقيق، ولا تحتكم إلا على الهوى والجرأة على الحق. إن من يمثل هذه النظرة بجلاء واضح هم (الدواعش) الذين خرجوا من مربع القول والأمنيات إلى دائرة العداء الفعلي، أولئك الذين يعملون بشكل معلن إلى تعريضنا للكارثة، لا عبر استدراج الغضب السماوي بصوت الموسيقى، بل بواسطة دوي قنابلهم وأحزمتهم الناسفة. عند تحليلنا للخطاب الأيديولوجي الذي صنعت منه مادة الفيلم فإننا نستطيع إدراجه بوضوح تحت ما يمكن استعماله وتفعليه من قبل الآلة الإعلامية الداعشية. بل إن المادة نفسها ليست سوى تدعيش وردي في الواقع. من المشين حقاً أن يكون بيننا من يتشوفون إلى اختطافنا حتى وإن أدى بهم التشوف إلى التورط في لغة حقودة وخطابات ترويعية.
من المهم أن يعمل المجتمع على إفهام هؤلاء بأنه ليس فريسة سهلة لهذا الاستغفال. وأن يعبر عن وعيه الجيد بأن من أراد تحذيره حقاً فليخاطب عقله بلغة المنطق والواقع، وليس بإثارة غرائزه بالهمهمات المموسقة والصور المفبركة.
إن هذه التيارات من مستعملي هذه الأساليب كثيراً ما أثبتوا بالفعل أنهم رسل الدمار والكوارث في بلدان المسلمين وليس العكس. فعندما يُقتل شخص يغني على يد شخصٍ آخر، فإن من أبسط إدراكات المنطق أن نعرف أن قاتله هو من تسبب في موته وليس غناءه.