مجموعة من الأكواب المتحررة من العراوي. طاولة من الخشب، تتباين أحجامها، وتسمى شعبيا (كرويتة)، مرفقة بطاولة أخرى طويلة، هي الكرسي الواحد المشبع بحميمية لجلوس الزبائن. مع آخر انسحابات السحر، حيث الأذان الأول يبدد غبش الفجر. تمتد الأيدي اللدنة الصغيرة، نحو المواقد (دوافير، وطباخات تعمل بالكيروسين، وأنابيب غاز أسطوانية صغيرة، زرقاء "لست أعرف حقيقة لم كانت زرقاء!"). تسرب المواقد حراراتها إلى الأجساد الغضة تدفئها مما يشبه بردا لطيفا، وتسخن ماء وضع في صفائح من الزنك، هي عبارة عن براميل متفاوتة الأحجام أيضا. وبينما الفتيان مستغرقون في ترتيب (عدة الشغل والبسطة).. بدءا برش قطرات من الماء لاعتقال ما قد يثار من غبار، وترطيب المكان حين تتعانق أبخرة الماء المغلي مع نسمات الصباح الباكر، ورائحة البخور، ومد قطع النايلون على كرويتة، رص الأكواب، ونصب علب الشاي والسكر والحليب والشاهي وحبات (الصامولي) وأطباق البيض المسلوق. ثم متابعة أفواج الحجيج وهي تتقاطر من الدور، تمشي بتؤدة ووقار صوب الحرم لتؤدي صلاة فجر ولا أروع. يكتفي الفتيان بأدائها في المساجد القريبة، أو في جماعات تنتصب في الشوارع، وصوت عبد الباسط يضوع الأفق بترتيله الفريد الأخاذ. مكة كلها تتحول إلى كرنفال بديع، في لحظة فرح قصوى. إنه الموسم حيث الهويات تذوب في قصعة من الحب والإخاء، يتنافس الفتيان في تجارب تجارية، تربي قيما، وتعلي الإحساس بمسؤولية العمل وأداء الواجب. صيغة بهية من صيغ التربية عايشها الفتيان في مدن الحج (مكة والمدينة وجدة).. تعزز في الفتيان تأكيد الجدارة وصقل القدرات مبكرا، فلا يتردد الأولون في إطلاق عبارة (واد مدقدق). إذ تتيح له تجربة العمل في الحج بدءا من البسطة الصغيرة التي يبدأ في التعود عليها منذ سن العاشرة تقريبا، الاحتكاك بكل الأعراق، والتواصل مع ثقافات متعددة، مما يوفر له فرصة معرفة لغات الشعوب الإسلامية، فتجد الفتى المكي ملما إلى حد كبير بلغات الشعوب، ناهيك عن متعة التباري في إتقان اللهجات العربية، وكلها أسباب تكفل تميزا لا تخطئه العين لفتيان مكة، الذين ما أن يشبوا حتى يغادروا (بسطة الحليب والشاهي) إلى أعمال أكثر تعقيدا، وتتطلب نضجا ودراية أهلتهم لها البسطة، مثل الجزارة والطوافة ومقاولات الطباخة، ونصب الخيام وقيادة الحافلات والإرشاد..، مفردات أعمال (سياحية). ففي الحج منافع ومدارس وتلبية احتياجات وأسئلة وجودية للإنسان.

كانت لبسطة الحليب والشاهي متعة أكبر من الكتابة.