الزحام غير معهود في ذلك الشارع.. سيارات مختلفة، ورجال ونساء وأطفال.. هناك شيء ما..
لا ينجح فضولي في أن يقتادني نحو هذه التجمعات.. سئمنا مناظر الدماء والحوادث.. ألح صاحبي عليّ بالمرور جوارها.. المفارقة أن التجمع كما بدا لنا حول "بسطة خضار"، يظهر أنها محصول لإحدى المزارع أراد صاحبها بيعها خارج سوق الخضار المرخص!
أخذنا نتحاور حول هذا المشهد.. سيارات فارهة، و"صالونات عائلية مظللة".. وأصناف متفاوتة.. كلهم اجتمعوا على "بسطة كوسا وباذنجان وخيار وجرجير"، على الرغم من كونها لا تكفيهم لو أرادوا الشراء.. فضلا عن عدم معرفتهم لمصدرها، وجودتها، وغير ذلك من أسباب تلغي فرضية التجمهر لغرض الشراء!
الناس - وهذا تفسيري الوحيد لما شاهدته - لم تكن تريد "الخيار والطماطم".. لم يكونوا يبحثون عن ربطة جرجير.. الناس توقفوا بحثا عن الدهشة.. بحثا عن الفرح.. عن الترفيه.. عن شيء مختلف في هذه المدينة الجامدة.. الشاحبة.. توقفوا بحثا عن التجمعات البشرية.. يريدون اقتناص لحظة أنس عابرة.. التقاط لحظة متعة شحت بها مرافق المدينة..
جزء من الصورة - ذكرته قبل سنوات - يكشف لنا الذين أغلقوا منازلهم وغرف نومهم الفارهة.. هربوا نحو البر.. بعدما تركوا وراءهم كل وسائل الراحة والرفاهية.. واستبدلوا حياتهم بحياة أشد قسوة وخشونة للبحث عن المتعة والمرح!
انظر حولك اليوم.. الزحام في بلادنا لا يخرج غالبا عن حالتين.. إما حول الموت.. جثث متناثرة، ودماء تصبغ الأسفلت.. أو بحثا عن الحياة والانطلاق ومحاولة الإنسان أن يكتشف إنسانيته وذاته وآدميته المفطورة على حب الأنس والفرح والمرح والغناء..
نحن نعيش في مدن أسمنتية منابع الترفيه فيها تعاني جفافا شديدا.. هناك ما يشبه الاعتراف الرسمي بذلك..
الترفيه المعدوم هو الذي جعلهم يتجمعون حول "بسطة جرجير" للنظر في وجوه بعضهم!
يبدو أننا بين خيارين خلال السنوات القادمة؛ إما أن نمنح الناس مساحات أكبر للترفيه والأنس والمتعة البريئة، أو نبني المزيد من مستشفيات الصحة النفسية!