في النقاش الدائر الآن حول فرص تحقيق تقدم في الحل السياسي للأزمة السورية، تنقسم الآراء إلى قسمين رئيسيين، وهذان القسمان لا علاقة لهما بالموقف السياسي، ولا بالموضع ضمن خارطة الصراع، بل هما مرتبطان بالطبيعة الشخصية، فذوو الطبع العاطفي متفائلون بأن هذه الجولة من المفاوضات ستفضي إلى حل سياسي، وستنتهي الحرب ويعود المهجرون، وهؤلاء يغلفون مشاعرهم الشخصية بشيء من الواقعية التي تقتضي الحذر، فيضيفون: لكن تحويل هذا الحل إلى سلام دائم، وتطبيق شروطه وتفاصيله قد تحتاج بعض الوقت، وبملاحظة أن الحرف "قد" إذا جاء قبل الفعل المضارع فهو يؤدي معنى التقليل، فإن رأي هؤلاء المتفائلين يصبح شبه متأكد من أن الوصول إلى حل سياسي بات قاب قوسين أو أدنى، وهناك احتمال قليل أن يستهلك بعض الوقت للتطبيق على أرض الواقع، وهؤلاء لا يملكون الأسباب الموضوعية الكافية للإيمان بهذه النتيجة، لكن قلوبهم تخبرهم بذلك، وقلوبهم لم تكذب عليهم يوما.

القسم الثاني لا يرى فرصة لنجاح المفاوضات، ولا يرى في هذه الجولة ما يختلف عن سابقاتها، ولا يرى كذلك في معطيات الأمر الواقع ما يبشر بإمكانية الوصول إلى حل، وهذا القسم يضم أولئك المتشائمين بطبعهم، أو أولئك الذين كانوا متفائلين ذات يوم، لكن الصدمات المتتالية جردتهم من تفاؤلهم، وحولتهم لأشخاص يائسين، وكذلك يضم أصحاب التفكير المنطقي البارد الخالي من الروح والمشاعر والرغبات.

وأصحاب هذا النوع من التفكير عادة ما يميلون لتحليل الأمور بطريقة حسابية، ويرجحون وقوع الأحداث ذات الاحتمالية العالية، وبناء عليه لا يرون في الأفق فرصة للوصول إلى حل ينهي هذه المقتلة المستمرة منذ أكثر من 5 سنوات، وهم يأتون بقائمتهم الرياضية تلك من تجارب الماضي، فالأحداث ذات الاحتمالية العالية هي الأحداث التي تكررت أكثر من غيرها في الظروف نفسها أو القريبة منها.

ولو راجعنا أحداث السنوات الخمس الماضية في سورية فسنصل بالطبع لما وصل إليه المتشائمون، فالفشل رافق كل محاولة للوصول إلى حل ينهي الأزمة وينهي الموت والدمار والتهجير، والفشل كذلك رافق كل مبادرة وطنية صادقة سعت لتوحيد السوريين على كلمة سواء بينهم، لم ينجح سوى تشكيل المنظمات المتطرفة والأكثر تطرفا، ولم ينجح سوى قصف المدنيين بالطائرات وبالمدافع، وتدمير المدن وانهيار الاقتصاد.

ولو وسعنا الدائرة قليلا، وحاولنا مطابقة التجارب القريبة ـ لا سيما في العراق ولبنان- فسنصل إلى النتيجة نفسها، فالعراق على سبيل المثال قابع في دائرة العنف منذ 13 عاما، وكان قد عاش قبلها سلسلة من الحروب لعقدين من الزمان تحت حكم صدام حسين، وبعد سقوطه تفاءل المتفائلون (أشقاء متفائلينا) بأنهم سيصنعون وطنا لجميع العراقيين، وسيعيشون معا في بلد الحرية والديموقراطية والرفاه، لكن الواقع حبسهم في دائرة العنف المتجددة، وحبس كل طائفة منهم في منطقة مسورة بالإسمنت، دون كهرباء، دون ماء، دون أمل ودون عمل، حتى المنطقة الخضراء الصغيرة جدا، تساقطت أسوارها بقوة غضب اليائسين.

لبنان أنهى حربه الأهلية منذ 25 عاما، واعتقد الجميع أنه طوى تلك الصفحة للأبد، وأنه سيعود لبنان "الأخضر الحلو" بلد الحريات والازدهار، لكن الواقع أثبت وبمرور السنوات أنه لن يعود بلدا حقيقيا أبدا، وها هو حتى الآن وبعد مرور ربع قرن على انتهاء الحرب ما زال عبارة عن تجمعات متجاورة تسكن كل واحدة منها طائفة مختلفة، يتربع على عرشها زعيم من زعماء الحرب، وها هو بلد بلا رئيس وبشبه حكومة وبمجلس نيابي معطل، يواجه منذ عام ونصف العام مشكلة رفع القمامة من الشوارع!

فلماذا سنصدق المتفائلين الذين يرون في حدث صغير كاجتماع جنيف فرصة للوصول إلى حل في سورية ما دامت أحداث كبيرة، كالإطاحة بصدام حسين وانتهاء الحرب الأهلية اللبنانية، لم تستطع أن تغير شيئا من الواقع المزري للبلدين المجاورين؟

فلنستمع للمتشائمين إذاً، فهم من يختارون الاحتمالات المرجحة، بناء على تجاربهم وقراءتهم لتجارب الآخرين، وبناءً على قلوبهم الميتة التي لا تملك أي سلطة على عقولهم المتسلطة.

صحيح أنه في الرياضيات ليست الاحتمالات المرجحة هي ما يحصل في الواقع، لكن النجاح في امتحان الحياة يحتم علينا أن نميل إليها دائما، ونضعها في صدارة توقعاتنا، ونبني قراراتنا على أساسها.