خلافاً للكثير من الفنون المستوردة من الغرب: شعر التفعيلة، المسرح، السينما، بقي أدب الخيال العلمي مستعصياً على الاندماج في منظومتنا الثقافية، سواء على المستويين المحلي أو الإقليمي.

ومع أن الاستدراج التاريخي للوقائع سيكشف لنا أن هذا الأدب قديم نسبياً على الساحة العربية، وكرس وجوده أدبياً –وسينمائياً أيضاً- الرائد المصري نهاد شريف عبر كتاباته التي تعود للستينات من القرن الماضي، إلا أن المشهد الثقافي العربي يخلو حالياً من اسم رائد في هذا الصدد. التاريخ يحفظ لنا أيضاً أسماء طيبة الإبراهيم من الكويت، طالب عمران من سورية و عبدالسلام البقالي من المغرب. لكن هذه الأسماء تظل كجزر في محيط هادر يغمرها أحياناً ويتجاهلها أحياناً أخرى. بالطبع تظل الأسماء الشهيرة التي كرستها كتيبات الجيب: نبيل فاروق ورؤوف وصفي وأحمد خالد توفيق. لكنها كلها تظل عموماً مرتبطة بالأدب الموجه للناشئة وللقراء الشباب. وبالرغم من رفض أصحاب هذه الأسماء لثمة "اتهامات" ولمناضلتهم لطرح أسمائهم عبر أعمال ودور نشر أكثر نضجاً وشعبية.. إلا أن الذائقة الأدبية تظل غير مستسيغة لهذا الجنس الإبداعي. ويظل الخيال العلمي في العين العربية قصياً وبعيداً ونائياً عن تناول الهم العام.

وأنت إذا ناقشت "مثقفاً" عربياً في كنه هذا الخيال العلمي فستندهش من كم اللبس والخلط الذي سيظهر لك. عند الكثيرين فإن ألف ليلة وليلة وكليلة ودمنة والسندباد البحري هي أمثلة على "تجذر" هذا الأدب في الفكر العربي. وهذا كلام فارغ! لأن أصحاب هذا القول قد تشبثوا بصفة "الخيال" الأسطوري ونسوا صفة العلم تماماً. وهنا تكمن الفكرة. لأن الظاهر أن القيمة العلمية هي الغائبة عن العقل العربي عموماً في تعاطيه مع الأدب وفي تجربته النهضوية والتنموية عموماً.

قد يبدو من غير العادل أن نطالب العرب بأن يلحقوا بالأمم الأخرى التي استفتحت القرن العشرين بآلة البخار وبالكهرباء ومحرك الديزل وبالآلة عموماً.. بالأمم التي اقترنت تجربتها الوجودية باستكشاف الفضاء وطاقة الذرة وتطورت لتشمل في لبها هموم الاستنساخ واستعمار المريخ وتقنيات الاتصال اللاسلكي. لكن المقلق بعد هذا كله أن الأجيال العربية اللاحقة والتي نشأت باتساق مع هذه المفردات كلها وأجادتها تماماً ما تزال غير واعية لآفاق تعريف ذواتها في ظل هذه التقنيات. تظل قصص الخيال العلمي عند هؤلاء محض ذكرى لأيام المراهقة. وهم حتى لو نمّوا نوعاً من الذائقة تجاه ثمة أدب فإنهم لا يلبثون أن يكبروا و "يتجاوزوا" تلك المرحلة. حتى أولئك الذين يقررون خوض غمار تجارب الإبداع الفني.. كم نسبة أولئك الذين يصرون على اقتحام ذات المسالك القديمة: شعر التفعيلة والمسرح والرواية التقليدية ليعبروا عن ذواتهم؟ عوضاً عن ممارسة هذا الفعل من بوابة الخيال العلمي؟ لماذا يبدو التساؤل الأخير أقرب للعبثية؟

لو أن مدرساً في حصة تعبير أو مشرفاً تربوياً يسعى لاكتشاف المواهب سأل تلاميذه أن يكتبوا نصاً في الخيال العلمي، فكم تلميذاً سيكتب عن صاروخ في طريقه لكوكب ما؟ كم واحد سيكتب عن مخلوق فضائي موجود بيننا متنكر في هيئة بشرية؟ وكم واحد سيكتب أحداثاً تنتهي بأن يستيقظ البطل من النوم ويكتشف بأنه كان يحلم؟! هناك معضلة مزدوجة في القدرة السردية وفي الإلمام بكيفية إدراج "العلم" في اللغة والتعبير. في الإمساك بفكرة علمية.. من ضمن أطنان الأفكار التي نضخها في عقول التلاميذ في حصص الفيزياء والكيمياء والأحياء والرياضيات والجيولوجيا والتاريخ. مئات ومئات الأفكار والأرقام والحقائق الجوفاء غير ذات القيمة التي لا يسع الطالب أن يستوعبها تماماً فضلاً عن أن يلعب بها ويشكلها ويتصور حال العالم لو أن أيا منها قد تغيير أو تبدل. إنها ملكة "الخيال" الناقصة في ظل فهم "العلم".

سيكون من الباهر أن تتضافر جهود المعلمين والمربين في مجالي العلم والأدب لتطوير منهج جديد.. أو مسابقة.. جائزة وطنية للناشئة وللكبار أيضاً في مجال الإبداع الخيالي العلمي. نحن نجيد استخدام الإنترنت ومؤخراً صنعنا سيارة. لكننا نحتاج لأن نضمن أن عقلياتنا قادرة على الخيال والخروج عن المألوف بكل بدهيات الأدب والعلم التي تتزاحم داخلها.