حوّل الكاتب عبدالله الغذامي 14 مقالاً اقترحتها عليه "الوطن"، ونشرتها له لتصبح كتاباً حمل عنوان "نحن وإيران".

وطرح الغذامي في كتابه أسئلة كثيرة، متناولاً الحالة الإيرانية، والشيطان الأكبر والمظلومية التي تدعيها لتصدر ثورتها كواحد من أهدافها الكبيرة.

 






يطرح الغذامي عبر 14 مقالاً كثيراً من الأسئلة حول الحالة الإيرانية راصداً المشهد الإعلامي الذي يتناول هذه الحالة، مؤكداً أن مقالاته ليست مع هذا أو ذاك، وهي لا تبرئ هذا ولا ذاك، ولكن جهد للبحث عن سيرة نصوصية لهذه الحالة التي ستظل عنده تحت مسمى (الحالة الإيرانية) لأنها نشأت ظرفيا وعمليا مع ظرف الثورة الخمينية وشعاراتها التي تسيِّر لغة الأحداث منذ 1979 حتى سقوط آخر الأقنعة في 2003، وهو عام انتصار شعار تصدير الثورة حتى صارت صور الخميني تغطي شوارع بغداد مثلما غطت الضاحية في بيروت، وغزت دمشق وأنحاء سورية ووصلت إلى البحرين واليمن.

الغذامي ذيّل تقديمه لكتابه قائلاً "أشكر الصديق الدكتور عثمان الصيني الذي تكرم وطلب مني كتابة مادة هذا الكتاب ونشرها في هيئة مقالات في جريدة "الوطن".


التفجير الثقافي

ما من مدونة ثقافية أو ذاكرة ثقافية بشرية إلا وتحمل من ضمن مكوناتها الأساسية منظومات من التنوع والتعدد تخترنها ذاكرة الثقافة بعامة، مجتمعات وأفرادا، وتشهد عليها النصوص المتوارثة بكل صيغها، وتظل هذه مصادر مستمرة، لا تسكن الذاكرة فحسب، بل إنها تغذي السلوك حسب حاجة الموقف التي تقضي استدعاء شيء من المخزون الثقافي.

ذاك أمر هين وتلقائي، ولكن الأخطر منه هو النوع الذي يستدعي ذاكرة جماعية، وليس موقفا فردياً، وإذا حدث أن ذاكرة جماعية تحركت فإن عواقبها وخيمة جدا، لأنها عادة لا تحضر حسب ترتيب عقلي ولا حسب مقاس فردي، مما يعني أن السيطرة عليها ومحاولة توجيهها ليس بيد فرد أو أفراد، وسيظهر أنها ليست بيد أي قوة عاقلة من أي نوع، لا قوة الحكومات ولا قوة المخططين والمحللين ولا قوة الطيبين الناصحين.

تتحرك المخبوءات من مخازنها، وتخرج من بطون كتبها حسب شروط، هي:

أ ـ المحفز الظرفي، أي أن يستجد ظرف من غير الظروف المعتادة، وتكون لهذا الظرف قوة مادية تمس معاش الناس أو نظام تفكيرهم، مع علاقات بعضهم ببعض.

هذه حالة الظرف الفيروسي الذي يصيب الثقافات في بعض الحقب، وقد حدث هذا مع كل الحروب الأهلية في أوروبا، وآخرها إيرلندا الشمالية ودول البلقان، مثلما حدث في لبنان.

ب ـ أن يكون المخزون عند فئات البيئة الثقافية يحمل صيغا متناقضة، ولكن تناقضها كان ساكنا وساكتًا، ومن ثم كان يمر عبر المدونات والخطابات المحلية والفردية أو الفئوية المؤطرة، لكنه يظل مؤطراً بحد يحده، ولا يجرؤ على التحرك العلني لأن تحركه يتناقض مع الروح العامة للمعاش العام، ولا يتفق مع قانون التعايش والتجاور والتسالم بين الفئات.

وهذا يفسر علاقة الثقافة العربية مع الثورة الخمينية، حيث درجات التوتر حسب ترمومتر التحفز الظرفي، ودرجات العلاقات بين طهران الخمينية وعواصم العرب، فإذا جرت تفجيرات في الحرم (الثمانينيات) والكويت والبحرين ولبنان تحرك الحافز الظرفي الفيروسي، وإذا هدأت الحال، في أواخر الثمانينيات، دخل الظرف المحفز في نوع من التهدئة الثقافية، وسيعود حين يجري القول عن احتلال أربع عواصم عربية وعن هلال شيعي، وعن خطط إرهابية في الأردن والبحرين والكويت، وهو ما يحرك مخازن الثقافة بين الأطراف كلها لتجرّ كل ما في الكتب والمدونات ليشرع كل طرف (الشيعي والسني معًا) بكشف أسوأ ما في مخزونه عن الطرف الآخر، وهذه هي حالة (التفجير الثقافي).

وحسب تواريخ الأحداث فإن وضعنا هذا لم يظهر إلا بعد 1979 لحظة ثورة كانت تبشر بخير ونصر عظيم، ثم صارت تتقلب يوماً بعد يوم حتى احتلت أربع عواصم عربية، وصارت ترسل المتفجرات والمفجرين إلى بلدان العرب، ومنها تفجرت الثقافة وأظهرت أقبح ما فيها.

من الواضح أن إيران وصلت إلى قناعة مسلكية في علاقتها مع جوارها توازن بها بين مطمحها في تصدير الثورة وبين سياستها الخارجية، أي أنها توازن بين يد ناعمة تطبع عليها بسمة تسويقية وبين يد خشنة تدبر أمرها بليل، وقد سبق لإيران أن حاولت تصدير ثورتها عبر الحروب، وحدثت حربها مع العراق لثمان سنوات متصلة، ولكنها انتهت بفشل مشروع تصدير الثورة، ومن هنا اختارت طريقاً مختلفاً اكتشفت معه أن تفجير الأوضاع في الوطن العربي يسهل لها تصدير ثورتها، وكان الوضع اللبناني هو أول الأمثلة، ثم جاءتها سورية بشار الأسد وعززت مطمحها، وصارت تفجر الأوضاع عبر وسطاء سهلوا لها المهمة، ثم تمادت في اللعبة وصارت تهيئ الأجواء لإحداث فوضويات أخرى، فأرسلت متفجرات إلى الأردن والكويت والبحرين، وتكشف بعضها قبل لحظة الأصفار.

يضاف إلى ما سبق عنصر آخر يتمم الخطة ويعطي فرصا لفوضويات ممكنة، وذلك بأن تسمح إيران في صناعة بيئة مهيأة لتوارد كل راغب في عمل تفجيري من تنظيمات تتعطش لمثل هذه الفرص، وإذا لاح لها فرجة من فرصة تحركت نحوها، ولهذا جرى تهيئة الظروف لمثل داعش لكي تتحرك وتؤسس لها دولة في سورية والعراق، وكان من الجلي أن معظم عناصر داعش كانوا في سجون العراق وسورية، ثم حدث شيء ما بتخطيط ليلي ما وهرب المساجين بالمئات متجاوزين أكثر كتائب الحراسة شراسة وجبروتاً، وتأخذهم سيارات من وسط الشوارع، وتعبر بهم كل نقاط الحراسة والتفتيش، وبعد ساعات يجري إعلان دولة الهاربين من السجون المحصنة المنيعة.

 


إيران تحميني/ سؤال الثقافة والمستقبل


حينما قامت الثورة الإيرانية عام 1979 ضد دكتاتورية الشاه، هبت المشاعر العربية فرحة بالفتح الكبير الذي هشم صنمية الإمبراطور المتغطرس والمستبد، وكانت الثورة تلك وعدًا عظيمًا بانخراط إيران في قضايا الأمة وقمتها فلسطين، وكان الخميني يتكلم بلغة تشعل مشاعر العرب بهجة بحليف إسلامي مساند لقضاياهم، غير أن الخميني ما لبث أن بدأ يجهز جيوشا تحت شعار تحرير الأراضي المقدسة، ليس في فلسطين وإنما في العراق، وهنا وقعت حرب الثماني سنوات بصدارة عراقية تحمي البوابة الشرقية للوطن العربي، كما هو الشعار الذي أطلقه صدام حسين، وتبين مع الزمن أن هذا لم يكن شعارًا فحسب، بل كان حقيقة لم تتكشف إلا بعد أن غلط صدام نفسه غلطته القاتلة بغزوه للكويت (1989)، وهو الحدث الذي فتح أبواب جهنم على الأمة العربية، وانتهى بسقوط بغداد عام 2003، وهنا تكشف أن البوابة الشرقية للوطن العربي كانت حقًّا وحقيقة محتاجة لحراسة منيعة، وترتب عن هذا أن دخلت إيران ليتفاخر ملاليها بأنهم يحتلون أربع عواصم عربية، وتحقق لهم ذلك خلال عشر سنوات، وقعت فيها بغداد وبيروت ودمشق وصنعاء تحت هيمنة المرشد الأعلى والحرس الثوري الإيراني بوساطة ممثلين مخلصين لمراد المرشد.

في هذه الدورة الزمنية تعرض الخطاب العربي الثقافي لتغير قلب كل الأسئلة، وحوّل وجهتها الجغرافية والمعرفية، وقد كانت البوصلة الثقافية العربية تتجه غربًا تحت ثنائية  (العرب/الغرب).

كانت البوابة الشرقية العربية محصنة، وسمحت لمثل تلك الأسئلة أن تنمو وتعم وتتعمق في كل أنساق الثقافة العربية بما في ذلك المعنى السياسي والاقتصادي وأنظمة التفكير والتأسيس في هيكلة مادية وثقافية، غير أن انهيار البوابة الشرقية (2003)، غيّر كل المعادلات لتحل ثنائية أخرى هي (العرب / إيران).

هذه إحدى علامات الرياح التي هبّت على الوطن بعد سقوط بوابته الشرقية، مما كسر بنية الجسد الواحد ليكون أجساداً.

ومع أحداث اليمن نشرت خارطة ملونة تكشف جغرافية التوزيع المذهبي والطائفي في اليمن بأربعة ألوان تقتسم الأرض والجبال والوديان وتلون الطبيعة بمعتقدات البشر، حتى صار الجبل عدوًا للوادي، وصار الحجر يسأل الحجر عن لونه.

حدث هذا وأنتج مصطلحاته الخاصة به كخطاب في التوحش الثقافي، وهذه المصطلحات هي: تصدير الثورة، الشيطان الأكبر، الأقلية، المظلومية. وأخطر ما في هذا هو أنه ليس تهديدًا لواقع الأمة فحسب، ولكنه أيضًا قنابل مبرمجة لانفجار مستقبلي سيضر المكون الذي تمّ استهدافه أكثر من غيره.

ولا شك أن إيران تستهدف الشيعة العرب، وهم هدفها الجوهري المخطط له، حيث تحاول إقناعهم بأنها هي من تحميهم، وقد قالها أكاديمي عراقي في حسابه على تويتر (إيران تحميني)، وهنا مشكلة المشاكل كلها على المستقبل حين ترى فئة من العرب أنها غير آمنة مع جوارها العربي وفي وطنها، وأن إيران هي الحامية لهم، ودونها سيكونون ضحايا.. والسؤال هو ما الذي حوّل أمنهم إلى خوف؟!.

هل وقع الشيعي العربي بخدعة إيرانية غيّرت من طبيعة وجوده وطبيعة علاقته مع الأرض والجار والهواء وأسئلة ثقافته حتى توجهت عيونه نحو طهران، وأدار ظهره عن نفسه وواقعه؟.

 


تصدير الثورة

(اعتبر "الحرس الثوري" في بيان صدر عنه، أنه يمارس "دوراً إستراتيجياً" في الحضارة الإسلامية، مشيراً إلى أن "رؤية" الثورة الإيرانية تتجاوز حدود الجغرافيا وتستند إلى "تغيير القيم والرؤى".. هذا التصريح الصادر عن الحرس الثوري يعيد كل القراءات إلى جذرها الأول في مفهوم (تصدير الثورة)، بدءًا من شعار الخميني 1979 حتى يومنا الحالي، وقد كان خطاب خامنئي في 18 يوليو 2015 بمثابة الصدمة لكل التوقعات التي تأملت أن يكون الاتفاق النووي بداية لثقافة سياسية إيرانية يحل فيها التفاوض محل العنف، وتحل السياسة الواقعية محل التوحش الثوري، ولكن خطاب خامنئي أكد وبالنص أن تدخل إيران في لبنان وسورية والعراق واليمن بل والبحرين سيستمر وبإصرار أيديولوجي صارخ، فالخطيب هو المرشد الأعلى للثورة، وأهم وأخطر وظائف المرشد الأعلى هي تصدير الثورة، وهذا مصطلح له خطورته المتصاعدة، منذ أن أعلنه الخميني ابتداء، وكان المظنون حينها أن هذا شعار سياسي ثوري من تلك الشعارات التي تلازم حماس أي ثورة مع بدايات عهودها، ولذا كان الظن أن الثورة ستتحول إلى دولة، ومنها تنشأ نظرية الدولة بمعناها السياسي والواقعي، ويكون أهم أمورها هو بناء الدولة بشرطها التنموي والتمدني، ولكن الذي ثبت على مدى أربعة عقود أن نظرية المرشد الأعلى ليست نظرية في الدولة، ولكنها نظرية في الثورة، بل في تصدير الثورة.




الشيطان الأكبر

سئل ابن قتيبة من أشعر الناس، فأجاب: من أنت في شعره حتى تفرغ منه، وهذا جواب سيشرح نظرية الشيطان الأكبر في المفهوم الإيراني، حيث سيصبح العالم كله ناديا للشياطين، وسيبرز رأس واحد حسب ظروف الحالة الماثلة، فقد يكون فردًا بعينه ومفرده، وقد يكون تنظيمًا أو مذهبًا أو دولة، ولن يتسنى تصدير الثورة إلا عبر ثلاثة تصورات أساسية، أولها أن هناك مظلومية تاريخية على الشيعة تحديدًا وحصرا، وبما أنها حصرت وحددت فإن الظالم هو من ليس مظلومًا، وبما أن المظلوم قد تمّ حصره فإن الظالم قد تمّ تعميمه، وإن بدرجات وحسب الظروف، وثانيها أن الثورة الخمينية هي المسؤولة عن رفع المظالم بما تراه من طرق، من حيث إن المرشد الأعلى هو نائب إمام الزمان المنتظر، وبالتالي فإن الولي الفقيه يدير ظروف زمن الانتظار بنصرته للمظلومين، والتعامل مع الظلمة، وكل من والى المرشد فإنه يحصن نفسه من الانتقام حسب درجة ولائه، ولن يسلم الشيعي نفسه من العقاب الصارم إن هو خالف مراد المرشد.

هذه سيرة سياسية للثورة الإيرانية ترسم علاقتها مع الآخر، كل الآخر وأي آخر، دون استثناء إلا بدرجات المواربة الظرفية، ولهذا تجنح إيران إلى المبالغة في التسلح بما أنها تتصور العالم كله شيطانيًّا، وأن مهمتها ضرب الشياطين كمهمة مقدسة لشرطية وظيفة المرشد الأعلى، وهو مرشد للثورة يدير بوصلتها ويحدد مضاربها مرة تلو مرة حسب التقلب السياسي لتلك البوصلة.

وأخطر ما في نظرية تصدير الثورة هو توسلها بوسطاء ينفذون مخططات التصدير، ولذا لجأت إلى غرس تنظيمات تدين لها بالولاء المطلق، وهذا شرط لا يمكن التفاوض عليه أو التسامح فيه.

ومثلما تتوسل بوسطاء يجري عزلهم عن وسطهم الوطني وتجييرهم جنودًا للثورة الإيرانية فإن مشروع تصدير الثورة يتوسل بمفهوم المظلومية وتخصيصها للشيعة دون غيرهم من الفئات، وتبعًا لهذا التخصيص فسيجري تشخيص غير الشيعي على أنه في معسكر الظالمين، أي تخصيص المظلوم وتعميم الظالم، وكل من ليس شيعيًّا فهو ليس مظلومًا، ثم يتصاعد الأمر ليكون ظالمًا، ولن يكون في وارد أن يتمّ إنصافه بما أنه يحمل خطيئة أولى اقترفت قبل أربعة عشر قرنًا، وتم الادعاء أن المحيط السني هو المسؤول التاريخي عنها، وتأتي الثورة الإيرانية لنصرة الحق ورد تلك المظلمة.

 


 سؤال المظلومية

تتوسل نظرية (تصدير الثورة) على الزعم بأن هذه الثورة هي ثورة (إسلامية شيعية)، وهو وصف لا يأتي عبر المعنى الإيجابي أو المحايد، ولكنه يتأسس نظريا وعمليا على المعاني السالبة، أي أنه يفترض أن الشيعة (وحدهم) مظلومون، مظلمة تاريخية ابتدأت مع مقتل الحسين في كربلاء وبقي أثرها أربعة عشر قرنًا متصلة، ويجري وصف الشيعة بأنهم أقلية مقموعة، وأن قامعهم هو الكائن السُّني الذي يحتويهم، ويقتضي هذا أخذ المعنى الجوهري في المذهب الشيعي بأن المهدي (إمام الزمان) سيعود حين ينضج الزمن لظهوره، وأنه سيخلص المظلومين ويملأ الأرض عدلاً بعد أن ملئت جورا ومظالم. مع التركيز على عنصرين كلاهما سالب، أولهما أن الشيعي هو المظلوم دون غيره، والثاني أن الآخرين غير الشيعة هم مرتكبو الظلم بصيغة متصلة، وليس بكونه حدثا محدداً في وقت مضى.

والمشكل مع هذه الشعارات هو لعبة التوظيف السياسي والوجداني لها، فهي تخدم السياسي لتجييش الحشود معه، وهي في الوقت ذاته تخدم الشعور العاطفي للحشود الشيعية التي تميل إلى أخذ هذه الفرضيات مأخذ اليقين المطلق، فتضع الحق بإطلاق في صفهم، وتضع الأطراف الأخرى بوصفها الظالم أو الساكت على الظلم، ومن هنا يتحد السياسي مع العاطفي لتأجيج المعاني وتحويلها إلى معان عسكرية وقتالية حتى تمت تسمية معارك الجيش العراقي بشعار (لبيك يا حسين)، وسار الجيش تحت هذا الدافع العقدي، وهو شعار يصنعه السياسي وتنفعل به الحشود، وفي المقابل يثير حفائظ الأطراف الأخرى، وهنا تتم عمليات تصدير الثورة حيث ستتخلق الطائفية بأقسى صورها بعد فرز المكون الاجتماعي بين أقلية مظلومة هم الشيعة حصرًا وآخرين سيكونون في خانة الظالمين، من بعد أن كانت المكونات تعيش متصالحة ومتسالمة لقرون حتى جاء شعار المرشد الأعلى للثورة الإسلامية بوصفه نائبًا عن إمام الزمان حسب نظرية (ولاية الفقيه).

هنا يأتي الإشكال المصطلحي، حيث الدعوى بأن ما جرى للحسين بن علي (رضي الله عنهما) هو أمر خاص بالشيعة الجعفرية، وأن مقتل الحسين هو قتل جماعي لكل من تشيع ويجري التذكير بهذا في كل سنة مع ذكرى العاشر من محرم، حيث تتم تغذية الوجدان الشيعي الفردي والجمعي بمعنى أنهم الوريث الشرعي الحصري للحسين في مظلمته التي لن تكون تاريخية، وإنما ستبدو زمانية متصلة.

 


في مفهوم الطائفية

يشترك العرب واليهود في أنهم شعب ينسب للسامية، عرقا واصطلاحا، كما يشتركان معا في أنهما يتعرضان لأنواع من العنصريات ضدهما في أوروبا تحديدا وعلى مدى قرون، غير أن مصطلحًا ثقافيًّا نشأ في الثقافة الغربية هو مصطلح (معاداة السامية)، ولكن اليهود تمكنوا من الاستحواذ المعنوي على هذا المصطلح ليكون خاصًّا بما يجري لهم دون العرب، حتى صار كل ما يمس اليهود هو جنحة قانونية يحاسب فاعلها حسابًا قضائيا، وفي المقابل يظل سبّ العرب والمساس بهم وكأنما هو استحقاق طبيعي أو حرية تعبير مع غفلة تامة بأن العرب أيضا شعب سامي، وأنهم يتعرضون لعنصرية متصلة، وتتكرر في كل الظروف والاحتكاكات.

وتجري في ثقافتنا اليوم أن ترداد كلمة (طائفية) تضيق حتى لتكاد تنحصر في النهاية على أي نقد لسياسات إيران وأذرعها في المنطقة، وبمجرد أن تنتقد قتل حزب الله للسوريين أو بطش الحوثي باليمنيين فأنت حينها طائفي، ويجري دومًا التغافل عن تفجيرات إيران وإرهابها ودعمها للإرهاب في حين تصرف الوجوه كلها باتجاه أي عمل يصدر من فئة سنية أو تدعي أنها سنية، ونلحظ مقدار المبالغة والتكثيف على مذهب في مقابل تبرئة المذهب الآخر.

والطائفية في أصل معناها هي إحالة إلى تمركز طائفة على نفسها بأن تميز ذاتها عن غيرها، وتسعى إلى إقصاء الآخر إقصاء حسيا ومعنويا وأعلى درجات الإقصاء هو تكفير المخالف، وهذه سمة ثقافية نجدها عند كل الطوائف الإسلامية، وكما عند السنة رؤية عن الفرقة الناجية من بين ثلاث وسبعين فرقة فإن عند الشيعة عددًا مماثلًا ونجاة مماثلة في مقابل أن الباقي كلهم في النار.

في كل الأدبيات الدينية لدى كل المذاهب تكفير قطعي ومتوحش للفرق الأخرى، بما في ذلك تكفير بعض الشيعة لبعض الشيعة وانشقاقاتهم على بعضهم، مع مبالغاتهم في التكفير والإقصاء والقطع بأنهم أهل الحق وغيرهم مبطل.


 


عبد الله الغذامي


 أستاذ النقد والنظرية ـ قسم اللغة العربية ـ كلية الآداب ـ جامعة الملك سعود.

 مواليد 1946 عنيزة، المملكة العربية السعودية.

 حصل على جائزة مكتب التربية العربي لدول الخليج في العلوم الإنسانية 1985.

 حصل على جائزة مؤسسة العويس الثقافية في الدراسات النقدية 1999.

 تكريم مؤسسة الفكر العربي للإبداع النقدي 2002.

 له عدد من الكتب في الشأن الفكري والثقافي واللغة.