في الوقت الذي اعتبر فيه أكاديميون -مثل إدوارد سعيد- (المكان) مجرد "خيال جغرافي أو جغرافيا تخيلية" ليس له أي ارتباط حقيقي بثقافة الإنسان لولا الأساطير التي تعيد المنتجات الإعلامية تصديرها للناس كلما تناسوا ارتباطهم بمكانياتهم، يصرّ آخرون -وهم كثر- على ربط المكان بتكوين الإنسان الذي يسكنه، بمعنى أنه لولا المكان لما أصبحت أنت هذا الإنسان الذي أنت عليه اليوم، أينما كنت وكيفما كنت. ولذا فإن جزءا كبيرا منا ومن ذواتنا وحضارتنا مرتبط بجغرافية المكان الذي نعيش فيه، وهذا ليس بالأمر السيئ لأنه يصنع تنوعا ثقافيا لولاه سيكون العالم مملاًّ. هنا ربما كان حري بالمختصين في الثقافة والأنثروبولوجيا النظر للمكان بشكل أكثر تفصيلا عن العادة. يعتقد أنه بسبب تكرر مصطلح "المكان" على أسماعنا بشكل شبه يومي بتنا لا نأبه بمكنونات هذه الكلمة وهذا المفهوم. هنا سنتحدث بشكل سريع عن المكانيات وتأثيرها في تكوين ثقافة الإنسان استنادا على آراء الفيلسوف والأديب الفرنسي "رولان بارث".
يقول بارث بأن مظهر المكان العام هو صناعة إنسانية مبنية على ذوق إنساني. العوامل التي تسهم بشكل مباشر في تحديد هوية المكان هي التصاميم المعمارية، الأطعمة والأشربة، الأزياء، الفن والموسيقى ثم العادات الاجتماعية. ثمة دول مثل أميركا تولي اهتماما كبيرا، بل تخصص ميزانية مليونية فقط للاستعراض بثقافتها المكانية أمام العالم. خذ مثالا، شجرة الكريسماس التي يراها الناس في كل مكان على الأرض حينما يحل رأس السنة الميلادية، أليست تطبيعا لثقافة أميركا الدينية والمكانية؟ ذلك أن أجزاء كثيرة من العالم لا تزرع ولا تحصد في أراضيها أشجار الدوجلاس ومع ذلك يستوردونها من الخارج فقط ليضيفوا لمنازلهم إحساسا كما لو أنهم في أميركا!
مثال آخر أكثر ارتباطا بنا، الجمل ورمزيته العالمية لثقافة العرب، وتحديدا أهل الخليج العربي، مع ملاحظة أن الجمل هنا سمة جغرافية وتاريخية لم يتم تعزيزها وتشهيرها كما في شجرة الكريسماس.
نظرا لمدى أهمية المكان في الحياة الثقافية لأي مجتمع فإن بعض الأكاديميين ولعل أهمهم الإيطالي، أنطونيو جرامشي، عرفوا ثقافة الإنسان بالأنشطة التي يقوم بها المرء في مكان معين. يضيف آخرون لهذا التعريف شيئا لا يغير فيه ما اتفقنا عليه حول أهمية المكان ويقولون: الثقافة هي الأعمال الأدبية والفنية التي ينتجها الإنسان في مكان معين. والأمثلة عربيا وعالميا على حضور المكان في الفن والأدب لا تعد ولا تحصى. ولكن برأيي فإن أكثرها وضوحا حضور ثلج موسكو وقطاراتها في رواية ليو تولستوي "أنّا كارنينا"، وحضور الصحراء والشمس في قصائد الشاعر السعودي محمد الثبيتي، وحضور المطر والمزارع في مؤلفات البريطانية جان أوستن، وهكذا دواليك.. كل عمل فني من أي مكان في العالم يهتم بالمكان الذي جاء منه، مثل اهتمامه ببقية العناصر الفنية الرئيسية التي بدونها لا يكون العمل مكتملا.