كثيرون من أفاضل الرجال في تاريخنا قتلوا بالتهمة الأبدية التي يرفعها من شاء على من شاء لتصفيته والتخلص منه؛ لأجل أغراض الدنيا، أو التشفي والانتقام، أو لحسابات ليس منها -بالضرورة- وجه الله والدار الآخرة.

قبل أشهر اعتُديَ على فتاة أفغانيّة تُدعى (فرخندة)، متخصصة في الشريعة، أنكرت على تاجر من تجّار الوهم يبيع للناس التعاويذ والرقى والتمائم، فأغرى بها الطغام والرعاع والحشوة والدهماء؛ متهمًا إياها بالاستهانة بآيات القرآن الكريم، فانهال الناس على جسدها الغضّ بالضرب والركل، حتى انتهى بهم المطاف إلى إحراقها بالنار، رحمها الله رحمة واسعة، وانتقم من قاتليها المجرمين.

لا لشيء إلا لأنها هدّدت دجالاً في رزقه حين نهته عن بيع التمائم والرقى وتلك الشعوذات والشعبذات التي يسوّقها باسم الدين، واستغلالاً لحاجات البسطاء من الناس، فانطبق على تلك المسكينة قول الشاعر:

أريد حياته ويريد قتلي .. عذيرَك من خليلك من مرادِ

وقبل أيام كنت أقلب كتابًا عجيب الصنعة، غريب المسلك، رقيق العبارة، محكم النسج، متقنًا ما شاء صاحبه من الإتقان، عنوانه: روض التعريف بالحب الشريف، كتبه كاتبه الوزير الشهير لسان الدين بن الخطيب المتوفى عام 776هـ رحمه الله تعالى.

أما الكتاب فهو كتابٌ في تزكية النفوس، وفي الترقّي في منازل السائرين والسالكين إلى رب العالمين، يبحث في النفوس وأدوائها، وطرائق تزكيتها وعلاجها، يشبّه الكاتب الفذّ فيها النفس الإنسانية بالأرض التي يجب أن تفلح وتُحرث، ويزال ما فيها من صخور وأحجار، ويقلع ما فيها من أعشاب ضارّة، وأشجار غير مثمرة، وتخدّ خدًّا لتزرع فيها بذور التقوى والصلاح، فتنبت بهذا شجرة معرفة الله تعالى، على يد الفلّاح (الذي هو العبد السائر فما عملُه على تزكية نفسه إلا فلحًا وزراعة للخير)، يعاونه فلاحون قد خبروا الزراعة والفلاحة (وهم الصحبة الطيبة التي تعين على الصلاح والتقوى)، فتورق أغصانها علائم الخير والمعروف، حتى تخرج هذه الشجرة الطيبة، شجرة معرفة الله تعالى؛ ثمارها الزكيّة المونقة، ثمار محبة الله تعالى والأنس به، والتوكل عليه، والإنابة إليه، فيتناولها الزارع حامدًا ربه، وشاكرًا فضله على هذا الثمر الذي لا يضاهيه ثمر، ولا يقاربه لذّة وغذاءً، ثمرَ حب الله تعالى.

فلو تمكّن حب الله تعالى في النفوس، الحب الحقيقي، الحب الذي يدعو إلى الرحمة والشفقة بالخلق، وإلى التخلّي عن أمراض النفوس من الكذب والطمع والبغضاء والكراهية والحقد والحسد، ولو استقرّ في الأرواح تعلقها بالله تعالى الذي يدعو إلى التحلّي بالصدق والنزاهة والزهد والحب والعمل على نفع الناس؛ لو تحقق هذا المطلب فسنكون بخير، وسيحيط بنا الخير، وسنحيا الحياة الطيّبة التي أعدّت للمؤمنين في الدنيا والآخرة.

إن من يحب الله تعالى حقًا لن يتسبب بأذى للناس، لن يؤذي حتى قطة، لن يتدنّس لسانه بالكذب والافتراء والدجل، لن يضر بالآخرين من أجل مصلحته الشخصية، لن يتكالب على الدنيا، لن يغش، لن يخدع.

وإن من يحب الله تعالى حقًا سيرحم خلقه، وسيحسن ظنّه بهم، ويلتمس لهم المعاذير، ويسعى في نفعهم وخدمتهم، ويتخلق بالأخلاق الكريمة، والخلال الطيبة، ويسعى في نصرة المظلومين، ويعطي المحرومين، ولن ينطق لسانه إلا بالبر والمعروف وطيب الكلام.

أدهشني هذا الكتابُ بحقّ، ومع هذا؛ هالني أن هذا الكتاب تحديدًا كان سبب نكبة مؤلِّفه الشهير الفاضل لسان الدين بن الخطيب يرحمه الله، الذي تقلّد الوزارة، وشاع في الدنيا أدبُه، وبهرت العقولَ بلاغتُه؛ إذ لا يخفى على أحد ما يجري من تنافس غير شريف بين الأنداد والقرناء، ولا ما يكون بينهم من الحسد الدافع إلى الإضرار بالخصوم.

اتهم بعض الفقهاء لسانَ الدين بن الخطيب بالزندقة! تلك التهمة السهلة التي يطلقها من شاء على من شاء، لا سيّما إذا كان المتهم كاتبا أو شاعرا أو مؤلفا أو مؤثّرا، وبلغت الدعوى القاضي، وأثبت التهمة على الوزير الفاضل -يرحمه الله- وكانت التهمة هي (الحلول والاتحاد)، أي إنهم اتهموه بأنه يقول إن الله حلّ في الكون، وأن الله متمازج مع مخلوقاته؛ رغم تصريحه في هذا الكتاب بأن هذا القول كفرٌ، وبأنه ليس إلا هذيانًا من الهذيان. وكذا أخذوه بالشبهة، وألصقوا به التهمة التي هو منها براء؛ فأودِع السجنَ، وحكم عليه القاضي بأن يقتل بتهمة الردّة، تلك التهمة التي نالت كثيرين في تراثنا فقتلوا شر قتلة ظلما وعدوانا. حتى إذا جنّت ليلة من الليالي، انسرب جماعة من "الغيورين" على الدين، فخنقوا الوزير الفاضل في سجنه، ثم أشعلوا الحطب فأحرقوا جثته بالنار. وهكذا يكون الظلمُ! والله حسيبه، وحسيب من قتلَه، وعند الله تجتمع الخصوم.

قال الإمام الشوكاني (السلفي) في هذه الحادثة في ترجمته للشهيد -بإذن الله- لسان الدين بن الخطيب، قال: "وقتله على الصفة المذكورة هو من تلك المجازفات التي صار يرتكبها قضاة المالكية ويريقون بها دماء المسلمين بلا قرآن ولا برهان، وأما وجوده على شفير القبر محرّقًا فلا ريب أن ذلك من صنع أعدائه، وليس بجرم ولا فيه دليل على صحة ما امتحن به؛ فإن الأرض قد قبلت فرعون وهامان وسائر أساطين الكفران".

يعني أن قتله على هذه الصفة، ثم وجوده على شفير القبر غير دفين لا يدلّ على صحّة تهمته، وتأمل رحمك الله كيف ينقم الشوكاني على حماسة بعض القضاة في قتل المسلمين بالشبهة، وإراقة دمائهم بلا قرآن ولا برهان. والله يجيرنا ويجيرك من هذا الظلم!