أمر الله تعالى بالعدل فقال تعالى: (إن الله يأمر بالعدل والإحسان)، وقال تعالى: (وإذا قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قربى)، وقال تعالى: (يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون). والآيات والأحاديث في الأمر بالعدل كثيرة معلومة.

وقد قال الصحابي الجليل عبدالله بن رواحة رضي الله عنه ليهود خيبر عندما ذهب إليهم ليخرص عليهم الزرع والنخل، بأمر من النبي عليه الصلاة والسلام فأرادوا أَنْ يَرْشُوُهُ، فَقَالَ: "يَا أَعْدَاءَ اللَّهِ، تُطْعِمُونِيَ السُّحْتَ، وَاللَّهِ لَقَدْ جِئْتُكُمْ مِنْ عِنْدِ أَحَبِّ النَّاسِ إِلَيَّ (يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم)، ولأَنْتُمْ أَبْغَضُ إِلَيَّ مِنْ عُدَّتِكُمْ، مِنَ الْقِرَدَةِ وَالْخَنَازِيرِ، وَلا يَحْمِلُنِي بُغْضِي إِيَّاكُمْ، وَحُبِّي إِيَّاهُ عَلَى أَنْ لا أَعْدِلَ بَيْنَكُمْ"، فَقَالُوا: بِهَذَا قَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ".

وقد سار على منهج العدل صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن تبعهم من السلف الصالح، ولا تزال طائفة على الحق والعدل حتى يأتي أمر الله. ومع الأسف لما نشأت الأحزاب، والجماعات، في بلاد المسلمين، كثرت الأهواء، وصار كثير من الناس، يريدون أن ينتصر حزبهم وجاههم ورياستهم، فيرضون عمن وافقهم، وإن كان جاهلا خاطئا، ويغضبون على من خالفهم وإن كان مجتهدا موافقا للكتاب والسنة. فأفضى هذا إلى أن يحمدوا من لم يحمده الله ورسوله، ويذموا من لم يذمه الله ورسوله. وتكون موالاتهم ومعاداتهم -كما يقول شيخ الإسلام- على أهواء أنفسهم، لا على دين الله ورسوله. وهذا أمر خطير، يتعلق بباب من أبواب العقيدة، وهو الولاء والبراء.

وكثير من المنتسبين للعلم والدعوة يقبلون قول العلماء الراسخين بأن: الحق يقبل من أي شخص كان، لا لأن فلانا قاله، ولكن لأنه حق، والباطل يرد على أي شخص كان، لا لأنه فلانا قاله، ولكن لأنه باطل. لكن دعوى القبول، ينقضها ما هو موثق عنهم بالصوت والصورة مما تزخر به الساحة اليوم، وما تبثه التقنية ووسائل التواصل الاجتماعي على اختلاف أنواعها، ومن ذلك:

أن موافقهم ممن هو من طائفتهم، يقع في طوام ربما تمس العقيدة، فيقابلون ذلك إما بصمت مطبق، وإما بتسويغ لذلك الباطل، ولو بتخريجات متكلفة، لتوهمهم أن بيانهم لخطأ صاحبهم الذي من طائفتهم، يعد من الخذلان له، ومن الاصطفاف مع خصومه، وهذا من الهوى والجهل.

بينما يقع مخالفهم بخطأ يسير، وقد يكون خطأ من وجهة نظرهم هم، فيتواصون به، ويسلقونه بألسنة حداد، لا يردون على الخطأ بعلم وعدل ورحمة، وإنما يسعون إلى الإسقاط والتشويه، يرون خطأه فرصة يجب أن تستثمر، نعوذ بالله من الهوى والفظاظة. وإذا أصاب في قوله أعرضوا، وربما شككوا، لتوهمهم أن الإشادة بقبول من يخالفهم فيه نصرة لمخالفيهم، وإغاظة لحزبهم وطائفتهم.

وكم رأينا من غلاة في طاعة قيادات أحزابهم وجماعاتهم وتنظيماتهم، لا يتجرؤون على الإنكار العلني لأخطاء قادتهم، وأفرادهم، مع أن تلك الأحزاب والجماعات والتنظيمات، منشقة عن جماعة المسلمين، وهي باطلة ما أنزل الله بها من سلطان، إذ لا حزبية في الإسلام. وأولئك القادة مفتئتون على إمام المسلمين، ليس لهم سمع ولا طاعة ولا بيعة.

وفي المقابل: يلمزون من يلزم طاعة إمام المسلمين بالمعروف، ويرون أن السمع والطاعة له ذلة ومهانة، مع أن من يطع ولي الأمر، إنما يطيعه امتثالا وتطبيقا لقوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم) وقوله صلى الله عليه وسلم (من يطع الأمير فقد أطاعني، ومن يعص الأمير فقد عصاني). فهم فروا مما أمر الله به ورسوله -وهو طاعة ولاة الأمور، ووقعوا فيما نهى الله عنه ورسوله عليه الصلاة والسلام- وهو طاعة قادة تلك الفرق والأحزاب، الذين كل حزب بما لديهم فرحون، ويرون أن العالم الحقيقي هو المستقل (ويعنون بالمستقل)، أي الذي لم يعينه إمام المسلمين، إلا إن كان هذا العالم من موافقيهم، ممن يخدمهم. بينما من عينه الحزب، وصدره للإعلام، يعد عالما مستقلا في نظرهم.

ويرون أن الإنكار العلني على إمام المسلمين ونوابه من أهم المهمات، خلافا لقادة أحزابهم ومريديهم، فلا يسمحون بنقدهم، لأن ذلك يعد خطا أحمر لا يصح تجاوزه، وهذا من الأخطاء العظيمة التي يجب أن تصحح، حماية للعقيدة من هذه الانحرافات والأهواء. والواجب على كل مسلم لا سيما من آتاه الله علما شرعيا، أن يعظم النصوص الشرعية، ويقبل ما دلت عليه، ويكون قدوة صالحة.

فيقبل الحق وإن جاء من شخص يبغضه عملا بقوله تعالى: (ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا)، ويرد الباطل وإن أتى من شخص يحبه، ولا بأس أن يقول: فلان حبيب إلينا، والحق أحب إلينا منه. ولا يجوز تضخيم الخطأ، والتجاوز على من وقع فيه، لأنه قد يكون مخطئا مأجورا، أو مذنبا معفوا عنه. وإنما المتعين هو الرد على الخطأ، وأما المخطئ فيوجه بالحكمة والموعظة الحسنة والمجادلة بالتي هي أحسن، ويدعى له بالهداية والصواب.

ومن الغلط الفاحش: تصويب المخطئ، لكونه من نفس الحزب أو الطائفة، كما أن من الغلط أيضا: تخطئة المصيب، لكونه ليس من طائفتهم وحزبهم. وإنما يسلك المسلم سبيل الاعتدال، فيرحم الخلق، ويعظم الحق.

وفي هذا يقول شيخ الإسلام رحمه الله: (ومما يتعلق بهذا الباب أن يعلم أن الرجل العظيم في العلم والدين من الصحابة والتابعين ومن بعدهم إلى يوم القيامة أهل البيت وغيرهم قد يحصل منه نوع من الاجتهاد مقروناً بالظن ونوع من الهوى الخفي، فيحصل بسبب ذلك ما لا ينبغي اتباعه فيه وإن كان من أولياء الله المتقين، ومثل هذا إذا وقع يصير فتنة لطائفتين:

طائفة تعظمه، فتريد تصويب ذلك الفعل واتباعه عليه. وطائفة تذمه، فتجعل ذلك قادحاً في ولايته وتقواه، بل في بره وكونه من أهل الجنة بل في إيمانه حتى تخرجه عن الإيمان، وكلا هذين الطرفين فاسد. والخوارج والروافض وغيرهم من ذوي الأهواء دخل عليهم الداخل من هذا.

ومن سلك طريق الاعتدال عظم من يستحق التعظيم وأحبه ووالاه وأعطى الحق حقه، فيعظم الحق ويرحم الخلق، ويعلم أن الرجل الواحد تكون له حسنات وسيئات، فيحمد ويذم ويثاب ويعاقب ويحب من وجه، ويبغض من وجه، هذا هو مذهب أهل السنة والجماعة خلافاً للخوارج والمعتزلة ومن وافقهم).