ابتعثت المملكة المتحدة 50 ألف معلم لتعلم اللغة الصينية، وتهدف إلى أن يصبح عدد متحدثي اللغة الصينية من البريطانيين 400 ألف شخص على الأقل، ويأتي هذا الاهتمام من قبل حكومة بريطانيا باللغة الصينية لمعرفتها بأهمية هذا اللغة في الوقت الحالي والمستقبل في تعميق العلاقات الاقتصادية والسياسية مع أهم دولة في الشرق وثاني أقوى اقتصاد في العالم، وتعليم اللغة الصينية وسيلة متينة لتعزيز هذه العلاقات وتنميتها، في السعودية توجد مبادرة خجولة لا تفي بأهمية اللغة الصينية في تنمية العلاقات السعودية الصينية الثقافية والاقتصادية، حيث قامت جامعة الملك سعود عام 2009 باستحداث برنامج تعليمي للغة الصينية بـ40 طالبا فقط استفادوا من توقيع جامعة الملك سعود لاتفاقية مع إحدى الجامعات الصينية للتبادل المعرفي والثقافي، وأهم المبادرات كانت أثناء زيارة رسمية للملك عبدالله -رحمه الله- للصين في عام 2006، فطلب لقاء أبنائه المبتعثين في الصين، وحين أخبره وزير التعليم العالي -في ذلك الوقت- بأنه لا توجد بعثات تعليمية للسعودية في الصين رغم علاقاتنا الاقتصادية والسياسية المتينة معها وجه -رحمه الله- وزارة التعليم بفتح ملحقية ثقافية في بكين، وتشجيع الابتعاث للصين حتى وصل عدد الطلاب المبتعثين في الصين خلال فترة قصيرة إلى أكثر من 3000 طالب يدرسون في جامعات الصين في كافة التخصصات باللغة الصينية، ويتحدثون بها كما يتحدث بها المواطن الصيني، بل قابلت بعض الطلاب السعوديين ممن يتقن التحدث باللهجات الصينية العامية، وتخرج منهم العديد من الكوادر المؤهلة، خاصة في مجال الهندسة، ويعمل أغلبهم في المشاريع السعودية الصينية المشتركة.

أثناء دراستي للغة الصينية لاحظت أن أهم المعوقات التي يواجهها أي راغب لدراسة اللغة الصينية هو غرابتها على سمعنا، وهي بالطبع لغة غير معتادة على مسامع السعوديين والعرب بشكل عام، ومن المعوقات أيضا هو عدم اطلاعنا على ثقافتهم بقدر اطلاعنا على الثقافة الغربية، فإذا قدمت إلى الصين لا تتعجب إذا ما سألك الجميع عند لقائهم بك أو محادثتهم الهاتفية معك هل أكلت شيئا اليوم؟! فهذه هي طريقة الشعب الصيني الاعتيادية في الترحيب، قد تبدو هذه الطريقة في الترحيب طريفة أو غريبة للبعض، ولكنها لن تكون كذلك إذا ما عرفنا أن طريقة الترحيب هذه لم تستحدث في ثقافة اللغة الصينية وفي محادثاتهم اليومية إلا بعد تعرضهم لأبشع مجاعة على مدى التاريخ، والتي استمرت لـ3 سنوات مرة كما وصفها الفلاحون الصينيون، والتي بدأت من عام 1958 ووصل عدد ضحاياها إلى 43 مليون نسمة، حسب المؤرخ فرانك ديكوتير، وفي تلك السنوات الثلاث القاسية على الشعب الصيني لم يعودوا يستخدموا كلمة مرحبا "ني هاو" عند لقائهم، بل يسألون بعضهم البعض هل أكلت شيئا اليوم؟ كتعاضد فيما بينهم على مواجهة المجاعة القاسية، واستمر هذا الترحيب بينهم حتى الآن رغم الرخاء الاقتصادي الذي ينعمون به في الوقت الحاضر.

ومن المعوقات أيضا هو أن اللغة الصينية تكتب بنظام الكتابة الفكرية، ولذلك لا تحتوي على أبجدية وإنما تحتوي على رموز "خنزات" رموز، وكل رمز عبارة عن كلمة مستقلة، كمثال: إذا رسمت سقفا وتحته امرأة) فإن ذلك يعني كلمة "أمن"، ويصل مجموع الرموز الصينية إلى أكثر من 60000 رمز، ولكن لا تحتاج أن تتعلم كل هذه الرموز لإتقان اللغة الصينية، فالشخص العادي في الصين لا يستخدم أكثر من 6000 رمز فقط، ليستطيع قراءة الكتب والصحف وممارسة كل ما يحتاجه من محادثات في حياته الطبيعية، والأجانب الذين يتعلمون اللغة الصينية بوسعهم أن يتعلموا 5000 رمز لنطلق عليهم وصف متقنين للغة الصينية، وهي لغة لها لهجات متعددة، ولكن اللهجات الرئيسة منها هي لهجة "مندرين": وهي اللغة الرسمية في جمهورية الصين الشعبية، ويتحدث بها في تايوان وسنغافورة، وتستخدم بكثرة في شمال وجنوب غرب الصين، وتوجد أيضا لهجة "و": ويتحدث بها سكان شانجهاي والمناطق المحيطة بها، ومن اللهجات الرئيسة أيضا في اللغة الصينية هي لهجة كانتونية: وهناك اختلاف كبير حول اعتبار الكانتونية لغة مستقلة أو اعتبارها لهجة من لهجات اللغة الصينية، وتتعدد اللهجات الصينية الرئيسة مثل لهجة "كن" ولهجة "شيانج" ولهجة "هاكا"، ورغم تعدد لهجات اللغة الصينية إلا أنها تعتبر هي اللغة الأكثر تحدثا بها على مستوى العالم، حسب عدد المتحدثين، فالمستخدمون لها يوميا أكثر من مليار نسمة ليس في الصين فقط، بل في سنغافورة والفلبين وإندونيسيا وماليزيا وتايوان والولايات المتحدة وبلدان أخرى تتواجد بها أقليات صينية.

اللغة الصينية هي اللغة الأطول عمرا من بين بقية اللغات، حيث يبلغ عمرها إلى ما قبل 3000 سنة، وما أثبت ذلك هو اكتشاف علماء الآثار نقوشا بدروع السلاحف يعود تاريخها لعهد أسرة شانج (القرن 16-11 قبل الميلاد)، ويعتبر هذا الاكتشاف سندا مهما ووثيقة، وتعطي المؤشرات الحالية من تعاملات اقتصادية وثقافية بين الدول بأن اللغة الصينية هي لغة المستقبل، نظرا لوضع الصين الاقتصادي القوي وتوسع شبكتها وإستراتيجيتها الصناعية والتجارية والاقتصادية والثقافية، وفتحها طرق الحرير من جديد وانفتاحها على العالم.

في ظل ارتباط كافة دول العالم اقتصاديا مع الصين لم يعد كافيا التحدث باللغة الإنجليزية لمواكبة تطورات وتغيرات النمو الاقتصادي الحديث، بل يجب دعمها باللغة الصينية التي أصبحت -شئنا أم أبينا- لغة الحاضر والمستقبل، وبريطانيا لم تقرر ابتعاث 50 ألف معلم إلى جمهورية الصين الشعبية لدراسة اللغة الصينية من باب الترفيه أو من باب القرارات الارتجالية، بل لحاجة ماسة فرضتها التطورات العالمية الحديثة، التي يجب علينا أن نواكبها ونعي أهمية تعليمها لأبناء وطننا، لنكسب كفاءات وطنية شابة تستطيع التعاون مع أقوى اقتصادات العالم لما فيه مصلحة الوطن.