على الرغم من كمية ما نُقل لنا من أكاذيب حول ظلام العصور الأممية الأخرى، وتميزنا وأفضليتنا على العالمين في كل شيء دون استثناء، إلا أننا لم نتساءل يوما عن سر تقدمهم وسر تخلفنا، عن تحقيقهم أهدافاً إنسانية كثيرة وانتقاصنا من قيمة الإنسان، عن مخترعاتهم وبلادتنا، أشياء كثيرة في الواقع، لم تدهشنا يوماً لنطلق التساؤلات عنها وحولها ولماذاتها العريضة.
ولن أدخل إلى منطقة الأرقام وتقاريرها، لأننا سنخسر بكل بساطة على هذا الجانب، ويكفي أن أعرج على استخدام الإنشائيات للتعبير عن خيباتنا المتلاحقة نتيجة ذلك الزمن المليء بثقافة نحن الأفضل.!
فالأحكام التي انطلقت منها عبارات التفضيل في الثقافة العربية، وبنينا عليها أفضليتنا وفوقيتنا وخساراتنا المتلاحقة، استندت في جوهرها على العاطفة التي صبغت الثقافة العربية التي سيطر عليها الشعر، أهم المنجزات العربية الإنسانية - ولا نملك غيره بالمناسبة- جديراً بأن يكون منجزاً إنسانياً نباهي به الأمم.
وفي الواقع لا شيء أقبح من أن تستمر في خداع نفسك بأفضلية عريضة قائمة على الأهم الوهمي.
والتفكير العميق (المستمر) في شؤون الماضي، وتمنحه القسم الأكبر من عملية التفكير والبحث والتقصي والإلهام، لأن ذلك سيجعلك حبيس فترة ما تُحكم سيطرتها على ما سيتبعها، ويسلبك قدرتك على رؤية المستقبل وطرح وتناول أفكار بنائه.
والتعبيرات الماضوية، التي تستخدمها الثقافة العربية حالياً ومنذ قرون ماضية، من خلال تكريس المصطلحات الزمنية للماضي، في الخطاب الفكري العربي، جعلته في الواقع يعيش خارج زمنه على الدوام ومتأخراً عن الركب الفكري والحضاري، وهي جزء من عملية التغييب وحالة الخدر، التي لم تتخلص منها الثقافة العربية إلى وقتنا الحاضر بنسبة كبيرة جداً، وتبعاً لذلك يظهر التباين في صراع الأجيال في المشهد العربي قوياً وعنيفاً في كثير من مناطقنا العربية، لأن الجذور التي بنيت عليها ثقافة التالي والمستقبل في (الذهن) العربي، وليس العقل العربي -لأن الأخير في الأصل مُغيب-، تقوم في أساسها على ضرورة الاعتماد على الماضي أول وأوحد أعمدة الحاضر والمستقبل، وليس كأحد دعائمها المهمة، وهذا يجعل كل تفكير خارج الماضي، أمراً فيه الكثير من الصعوبة، بل لا أبالغ إن قلت استحالة الأمر، وهذا في حد ذاته أقوى السدود، لأن التفكير هنا لا يستخدم الوسائل، كاللغة مثلاً، وإنما يفرض عليك استخدام الفكر والطريقة، وخارج ذلك ستكون في خانة الشاذ والمنسلخ والتغريبي... إلخ.
هكذا بكل بساطة تم تخديرنا وسلب عقلنا المفكر المبدع، فبقينا نراوح في منطقة الخدر، واستمرأنا تخديرها لنا، ولا يزال القسم الأكبر في المجتمعات العربية يفضل ذلك.
إن أسوأ ما يحدث للمستقبل العربي حاليا -من وجهة نظري- يكمن في أمرين، أظهرتهما حالة التناقض التي تظهر في الثقافة العربية حالياً، على إثر انفتاح العالم، واكتشافنا لحقيقة أننا لسنا الأفضل ولسنا الأوائل. هما المبالغة في إعلان التخطيط للمستقبل وقراءة الحاضر، والمبالغة في الاستهزاء والتندر على ذلك التخطيط وأحلامه، وهي نتيجة طبيعية لحالة فقدان التوازن التي مر ويمر بها الوعي العربي، لأن "عربة الماضي لن تذهب بك إلى أي مكان"، كما يقول أحد الفلاسفة.