دلال المالكي
راودتني فكرة جدوى إنشاء عيادة لـ(التداوي بالفنون) وأنا أشاهد مقطعا تسجيليا لأحد الرقاة يتلو آيات من القرآن، متأملة نوع الآيات التي يستخدمها القارئ - بغض النظر عن فاعليتها في العلاج من عدمه- وكيف أحدثت تأثيرها المباشر على المريض بالبكاء والنشيج؛ إذ استخدم القارئ في بعض تلاوته آيات الله التامة البلاغة بكلماتها المؤثرة متخيرا منها ما كان تصويريا تخويفيا للعذاب بالنار في صوت مؤثر مخيف ما جعل المتلقي يجهش بالبكاء؛ ليس لأنه مصاب بالعين أو الحسد ولكن؛ لأن هذا الصوت النغمي بهذه الطريقة هو الذي أحدث الرهبة في نفسه، لكن ماذا لو استخدم في تلاوته النغم الحجازي في الترتيل، قطعا لن تحدث ذات الردة في الفعل؛ لأن النغم الحجازي يمتاز بالهدوء ويبعث الطمأنينة في النفس.
هذا المقطع أكد يقيني أن داخل كل إنسان فنان أو متذوق لأحد الفنون المؤثرة بالكلمة والنغم واللون، مهما بلغت درجة تأزمه منها أو تحريمه لها وتجريمه لمبدعيها، مما يجعل فكرة إنشاء عيادة (التداوي بالفنون) - الشعر والدراما والفن التشكيلي والغناء والموسيقى- فكرة ناجحة ومتميزة على المستوى العلاجي والمستوى الفني.
إن إنشاء مثل هذه العيادة يحتاج بلاشك إلى مختص نفسي متمرس بالجانبين النفسي والفني معا؛ حتى يهيئ هذا المريض للدخول إلى عالم النفس الذي هددته المخاوف والآلام واصلا معه إلى النقطة الفنية داخل هذا المريض، بعدها تأتي مرحلة المختص الفني الذي ينبغي أن يمنحه فرصة التعبير الحر بعيدا عّن قيود الخوف، والرقابة أن يكتب أو يرسم أو يغني ما يراه وحده ولا يراه غيره أن يصف عالمه المتفرد، كما يصف أي مريض في أي عيادة عضوية آلامه وشكواه.
جدوى هذا النوع من العلاج يتأكد في الأمراض المتعلقة بالنفس والروح؛ لاسيما وأن القرآن كذلك يتأكد بوصفه علاجا روحيا لهذا النوع من الأمراض فالمرض الروحي يحتاج علاجا روحيا يتماس مع أفياء الجمال في النفس، والتي غالبا يمكن محاورة المريض من خلالها، وقد يبدو غريبا تفسيري مثلا لحالة كتلك التي وقع فيها قيس ليلى من الجنون على ما امتلكه من إبداع مذهل، فهو لم يجن فقط؛ لأن ليلى لم تحبه؛ لكن لأنها لم تقابل هذه الحالة الهذيانية الإبداعية بمثلها؛ وليس بمستغرب بعد ذلك إن اتهم المبدع بمس الجنون.
وقد سمعت من إحدى الزميلات التي تعمل في مشفى للطب النفسي أن بعض المرضى لديهم لا يتكلم إلا شعرا ولا يهدأ إلا حين يجد من يحاوره بذات اللغة، الأمر الذي ذكرني بفقيد زمانه حمد الحجي، الذي وافته المنية في مكان مشابه قبل أن يجد من يتلمس مواضع الألم منه ويعالجها..
وقد وجدت في زيارة أتيحت لي إلى أحد السجون معرضا تشكيليا يشرف عليه مختصون من إدارة السجون، وقد وضع كي يفرغ فيه أولئك المحكومين طاقاتهم الروحية ولواعجهم، ومن خلال قراءة سريعة لبعض تلك اللوحات استطاع المختص أن يحدد نقاط التأزم في تلك الذوات، ومن هذه التجارب أيضا المحاولة التي قدمها الفنان راشد الشمراني من خلال رسالته العلمية في علاج المرض النفسي بالدراما.
فمتى نجد طاقما فنيا نفسيا ناجحا يتآلف ويتجرأ على إنشاء عيادة علاجية بمثل هذه المواصفات، أظن أنها مغامرة تستحق فالروح أغلى ما يملكه الإنسان ولابد أن تصان عن الزج بها في أيدي معالجي الدجل والشعوذة.