أخطر مراحل "علم الجرائم" ليس بأكثر من أن يصل المجتمع إلى مرحلة من استمراء وقوع الجريمة ومن ثم البلادة الذهنية أمام أخبارها وتفاصيلها، حيث تصبح الجريمة في الشارع الأخير من "الحارة" وكأنها في الركن الشمالي الشرقي من كوريا الشمالية. صباح الإثنين الماضي جمعت لكم 36 خبرا لجرائم مختلفة على الساحة المحلية من خمس صحف ورقية فقط. وجوهر القصة أننا ندخل عصر الجريمة المفاجئة، وهي باختصار: أن تخرج للشارع العام آمنا مطمئنا، وواثقا أنك بلا عداءات سابقة أو سجل من الشغب والخلافات مع الآخرين، ولكنك تتفاجأ بمن يأخذك لكي تكون ركنا في قصة أمنية لا تعود بعدها إلى منزلك إلا بعد كفيل ومحضر في قسم الشرطة.

سأعود للجملة الأولى في البلادة الاجتماعية حد استمراء الجريمة وهضمها بكل بساطة كجزء ثابت من حياتنا اليومية. ثلاثة شبان يفقؤون العين اليمنى لعامل آسيوي في مدينة تبوك. وذروة الدهشة أن هذا الوافد الشقيق أفاد في التحقيق بأنه لا يعرف أحدا ولا يتهم أحدا، وكل ما أدلى به أنه كان بالشارع عندما أحاط به ثلاثة شبان دخلوا معه في عراك ثم هربوا في سيارتهم، ليكتشف مباشرة أنهم أخذوا منه نصف بصره. قبلها وفي أحد مقاهي الرياض تم تداول المقطع الشهير لثلاثة شبان أيضا يسكبون إبريق الشاي الساخن على وجه النادل الآسيوي، وبكل البرود كان هناك رابع يصور المنظر البشع، وإلا فكيف وصلت إلينا صور الجريمة؟ وكل ما يفعله هذا المجتمع تجاه مثل هذه الجرائم ليس إلا الذكاء الإلكتروني بتحويل هذه الأخبار إلى "هاشتاق"، وهذا من وجهة نظري خطأ فادح، لأننا نزيد من دائرة البلادة الاجتماعية تجاه تقبل واستمراء الجريمة. قرأت لكم مثلا من أخبار الجرائم صباح الإثنين الماضي قصة مدرسة متوسطة استطاعت جمع ومصادرة 19 قطعة سلاح أبيض من جيوب الطلاب في اليوم الأول لبدء الامتحانات النهائية. هذا رقم مخيف، وهذه قصة خبرية مفزعة لشريحة طفولية من هذا المجتمع لم تصل بعد حتى إلى ذروة المراهقة، وكل هذا يحدث في مدرسة متوسطة واحدة.

والخلاصة الأخيرة أنني عشت طفولتي ومراهقتي "قرويا" يوم كان حمل "العصا" في وجه "الرفيق" جريمة تحل على صاحبها بالإبعاد والنبذ المجتمعي. كانت القصة الواحدة من هذه الشاكلة تستهلك سنوات من حديث عشرات هذه القرى. اليوم نحن نصل إلى هذا المنحدر الخطير من القبول بالجريمة إلى الحد الذي أصبحنا فيه نطلب السلامة حين نقف لمئة ثانية أمام إشارة مرور ثم نخرج منها بلا قصة. انتهت المساحة.