نبحث عن الصدى؛ عمّن يلتقط الكلمات ويوافي بعض مراميها، ويمرّر لنا حفيف أنفاس الحروف أو ما تبقّى على الجلد أثراً يقول العبور ويقول تأثيره. الصدى الذي يتحسسه أولئك الشعراء المضروبون بشمس الإبداع، ويكشفون روحهم لها ويغرون السوط أن يمسّها ويبالغ في هذا المسّ.
الشاعر محمد الجنيدل أخضع نصوصه المكتوبة بين عامي 2006 ـ 2010 لغربلة خرج منها بـ "أشياء لم يكن في مقدوري فعلها" تنتظم فيها جملةٌ من النصوص تعكس اشتغال الجنيدل على تجربته لتقول حياةً جفّفها لظى العيْش والتسكع في شوارع لا تدنيه وبين غرفٍ تطفر بالوحدة وبالزوار غير المرغوبين من مخلوقات تنكتّ من الزوايا والشقوق والدواليب؛ تفاقم اليأس على وحيدٍ ليس مع أحدٍ غيرها.
ما يلفت في هذه التجربة أنها تركّز على لقطة مفردة، تصبح بؤرةً لاستحثاث الممكنات الجمالية التي تفيض عنها مع إطالة النظر والتدوير والتأمل ومتابعة هذه اللقطة.. مختبر اللقطات يتوزّع في ملاحقة المشهد بعد تهشيمه وإحالته إلى تفصيلات صغيرة؛ تنهض حين تتراص وتتجاور بالمعنى الذي لا نجده لو تمسكنا بالتفاصيل وحاولنا أن نراها في تبعثرها فقط دون أن نلحمها في سياق ينظمها ويعطيها الثقل والمحسوسية. هذا الثقل والمحسوسية يأتيان مرّة بإحالة من الذات الكاتبة، بتوقيعها المفارقة في نهاية النص، ومرة بإحالة مباشرة إلى المشهد ذاته بتركيباته التي لا تحتاج إلى تدخّل خارجي يضع اليد على الدلالة؛ على المعنى. ثمة حالة تتصاعد، تتسرّب، نلتقي بدفعتها الشعريّة ضمن المسافة من بدء النص إلى منتهاه. وهذا يعني تلوين الاشتغال على النص وتدبّر الشعرية بأكثر من طريقة تنقذ بقية النصوص من تكرار الإنتاج بذات الطريقة.
"أشياء لم يكن في مقدوري فعلها" تحتفل بالسرد وتتكئ عليه كثيرا، حيث نواة السرد المحكومة بالخارج وبتتابعه الحَدَثي البصري أو حتّى عندما يكون المشهد جامدا فإن السرد يقوم بتسييله؛ يناور ركودَه وتيبّسَ مفاصله. وربما يكون نص "ظهيرة، سقف، شاي" دليلاً على هذا الاتكاء بطرفيه الحدَثي أو التسييلي في مقاطعه الثلاثة وهو من النصوص الدالة على التحقق الجمالي حيث معمار النص وطريقة تشييده يخفي في طيّاته أو يُظْهِر على وجه التحديد ما يريد النص أن يقوله عن ضجرٍ وعن تشابهٍ وعن صخرةٍ تتنقّل وتحطّ بثقلها مع كل تركيب.
على صلةٍ بالسرد، شدّتني عناية الشاعر بالزمن والانتباه لحركته. ما يشير إلى شاغل عميق يَسِم التجربة فيجعل للزمن الأولوية أو ربما يكون هو المحرّض على تظهير التجربة. لمستُ هذه الانتباه للزمن وحركته وتأثيره في مجمل النصوص، مثلا نص "مشاجب" بمقاطعه العشرة، وهنا أؤكد الصلة على السرد بما هو مسافة تأملية وجمالية مضبوطة وموزونة تتدبّر الاتصال جيدا بما هو شخصي أو خارجي أو هو من باب الشأن العام بتمظهرات معيّنة، تعرف العين البصيرة كيف تلتقطها وتشحنها وتعيدها في سياق المعنى أو الرؤية التي يريد الشاعر التعبير عنها.