عُقد في موسكو الخميس الماضي (26 مايو) الاجتماع الوزاري المشترك للحوار الاستراتيجي بين مجلس التعاون الخليجي وروسيا، وهي أول مرة يُعقد فيها مثل هذا الاجتماع في العاصمة الروسية. وهذا في حد ذاته حدث تاريخي، إذ عُقدت جميع الاجتماعات الوزارية السابقة بين مجلس التعاون وروسيا الاتحادية، إما في نيويورك أو في دول المجلس. وهي كذلك المرة الأولى يعقد فيها اجتماع للحوار الاستراتيجي الشامل بينهما منذ الاجتماع الأول الذي عقد في أبوظبي عام 2011.

تميز الاجتماع، الذي شارك فيه وزراء الخارجية من الجانبين، بالصراحة والشفافية في مناقشة المواضيع التي تختلف فيها وجهات النظر، خاصة الملفين السوري والإيراني. ويلاحظ أن العلاقات بين منظومة مجلس التعاون وروسيا قد مرت بتقلبات عدة خلال السنوات القليلة الماضية، ففي 2011 قرر الجانبان للمرة الأولى الدخول في "حوار استراتيجي"، أي تعميق العلاقات بينهما في المجالات السياسية والاقتصادية والثقافية وغيرها، ووقعا مذكرة تفاهم بهذا الخصوص في أبوظبي في الأول من نوفمبر 2011، وشرعا في إعداد "خطة للعمل المشترك".

في عام 2011، كان هناك توافق متزايد في وجهات النظر حيال القضايا الإقليمية، بما فيها سورية، ولكن سرعان ما تبدد ذلك حين اتخذت روسيا موقفاً مغايراً، ازداد تشدداً منذ ذلك الوقت.

وفي موسكو هذه المرة كانت هناك بوادر للتوافق حول الملف السوري وغيره من الملفات السياسية، وفي الوقت نفسه اتفق الجانبان على استئناف وتعزيز العمل المشترك في القضايا الاقتصادية وغيرها.

في سورية، على سبيل المثال، كان هناك تطور في الموقف الروسي. فقد اتفق الجانبان على ضرورة وضع نهاية سريعة للصراع على أساس بيان جنيف الصادر في 30 يونيو 2012م، وقراري مجلس الأمن 2254، 2268، وبيانات المجموعة الدولية لدعم سورية. فإعادة التأكيد على بيان جنيف مهم، وإن كان للروس مفهوم معين في تفسيره. التغير الأكثر أهمية هو موافقة الجانب الروسي على التمييز بين المعارضة المعتدلة من جهة، والتنظيمين الإرهابيين داعش وجبهة النصرة من جهة أخرى. حيث كانت روسيا تهاجم معظم فصائل المعارضة. والتطور الثالث يكمن في التأكيد الروسي – كمجلس التعاون – على معالجة الأوضاع الإنسانية للسوريين، لاجئين خارج الحدود ونازحين أو محاصرين داخلها، وهذا أيضاً تطور جديد في الموقف الروسي.

وفيما يتعلق بالتعامل مع إيران، كان هناك أيضاً تطور في الموقف الروسي. ومن ذلك التوافق مع موقف مجلس التعاون بأن تكون العلاقات بينها وإيران قائمة على "مبادئ حسن الجوار، وعدم التدخل في الشؤون الداخلية، واحترام الاستقلال والسيادة، وسلامة الأراضي، وحل النزاعات بالطرق السلمية وفقا لميثاق الأمم المتحدة والقانون الدولي، والتخلي والامتناع عن استخدام القوة أو التهديد باستخدامها أو الاستفزازات التي قد تقوض الثقة وتهدد الأمن والاستقرار في المنطقة". وكل هذه موجهة إلى إيران التي لا تلتزم بهذه المبادئ، وتستمر في زعزعة استقرار المنطقة والتدخل في الشؤون الداخلية لدولها. وكان لافتاً أيضاً أن روسيا وافقت على الإشارة في البيان الختامي إلى جزر الإمارات العربية المتحدة (طنب الكبرى وطنب الصغرى وأبو موسى)، مطالبة بحل الموضوع "وفقا للقانون الدولي وميثاق الأمم المتحدة، بما في ذلك المفاوضات المباشرة بين الطرفين"، وهو مطلب مجلس التعاون.

وفيما يتعلق بإيران أيضاً، وافق الجانب الروسي إلى الإشارة إلى "المشاغل البيئية لدول المنطقة، بما في ذلك ما يتعلق بمجال السلامة النووية"، وهي إشارة إلى القلق الخليجي من عدم تقيد إيران بمعايير السلامة وعدم انضمامها لاتفاقيات السلامة النووية في مفاعلاتها النووية، التي بنت روسيا بعضها. ووافقت روسيا كذلك على الإشارة في البيان الختامي إلى "القلق العميق لدول مجلس التعاون بشأن استمرار إطلاق الصواريخ الباليستية في منطقة الخليج".

وهكذا في بقية القضايا، من فلسطين إلى ليبيا، مروراً باليمن والعراق: ثمة توافق مهم في وجهات النظر.

ويحرص الروس على وجه الخصوص على تفعيل الحوار بين الحضارات والثقافات والأديان باعتباره خياراً استراتيجياً، كما يقولون. وانخرطت روسيا داخلياً وخارجياً في حوار مع العالم الإسلامي، تسعى من خلاله إلى تقريب وجهات النظر، أو على الأقل تخفيف حالة الاحتقان بينهما، واستضافت الأسبوع الماضي مؤتمراً مهماً في هذا الخصوص، عُقد في مدينة قازان بين 25 و28 مايو.

ونتيجة لهذا التوافق النسبي في القضايا السياسية، اتفق الجانبان على استئناف التعاون بينهما في جميع المجالات: فبهدف تعظيم الفوائد والاستفادة من الإمكانات الاقتصادية لديهما، اتفقا على العمل على تهيئة بيئة ملائمة لزيادة التبادل التجاري والاستثمار، والتواصل بين ممثلي قطاع الأعمال، وتعزيز التعاون في مجالات الصناعة، والنقل، والاتصالات، والزراعة، والسياحة، والرعاية الصحية. واتفقا كذلك على تعزيز التعاون في مجال الطاقة، وفي مجال الاستخدامات السلمية للطاقة النووية، والسلامة النووية، والطاقة المتجددة، والتعاون في مجال التعليم العالي والبحث العلمي والتواصل بين الجامعات ومؤسسات التعليم العالي ومراكز البحث العلمي. والتعاون في مواجهة التحديات المتعلقة بالتنمية والحفاظ على البيئة والموارد الطبيعية، وحالات الطوارئ والكوارث والأزمات البيئية، والسياسات المائية.

وتم الاتفاق كذلك على تكثيف الحوار السياسي على جميع المستويات، وتطوير العلاقات البرلمانية بينهما.

ولتفعيل ذلك على النحو المطلوب، تم الاتفاق على استكمال إعداد خطة العمل المشترك للحوار الاستراتيجي بينهما، وهو جهد توقف في عام 2012 بعد تغير الموقف الروسي حيال الأزمة السورية.

جولة مهمة من المحادثات بين مجلس التعاون وروسيا، ولكن الأكثر أهمية هو التطبيق على أرض الواقع لما تم الاتفاق عليه في موسكو.