منذ وضعت الحرب الباردة أوزارها وهبت إرادة الجماهير تقتحم محظورات الفصل بين المعسكرين وتهد سور برلين أواخر القرن الماضي مؤذنة بانهيار المنظومة الاشتراكية وتفرد المعسكر الرأسمالي بمقاليد العالم مذاك حتى اليوم لم تقف الأمتان العربية والإسلامية أمام مراجعات علمية تفضي إلى مقاربات معلومة تكرس مخرجاتها في خدمة القرار السياسي العربي وتساعد على إطلاق مفاهيم وموجهات عامة من شأنها التقريب بين خيارات العالم الإسلامي وتوجهات نظمه السياسية الحاكمة..

غياب الرؤية المشتركة للأمتين العربية والإسلامية تجاه مرحلة الاستحواذ الغربي بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية أدى إلى نتائج سلبية تختلف التكهنات حول تقدير أمدها وكلفتها إذ لا أحد من أبناء الأمتين يستطيع الإفلات من تبعات هذه المرحلة وربما يغدو القبول بالحد الأدنى من فواتيرها أدعى للسلامة.

تنتهي الحروب عادة بإملاءات المنتصر خياراته، وحيناً بتسويات معقولة تفرض التزامات متبادلة لمصلحة الضحايا الذين يشاركون على مسرح المواجهات كحلفاء من غير أن يكون لهم الحق في تحديد الأهداف.. لكن الذي حدث خلال فترة الانتقال من الثنائية القطبية إلى مرحلة التفرد كان خلافاً لطبائع الحروب وتقاليدها إذ وضعت الحرب الباردة أوزارها بطريقة غير أخلاقية الأمر الذي جعلها ولادة ظواهر دموية تنتمي إلى أسوأ ما في الخيال المريض من عدوانية وشرور..

لا المنهزم في الحرب الباردة تحسس أطرافه الخشبية وأعاد التفكير في مسؤوليته تجاه الحضانات التقليدية المثقلة بوزر مشغولاته السياسية والفكرية والعسكرية السابقة أو دلَّ على ما تبقى في الساحات الخلفية من مقتنيات مشفرة على ذمة البروليتاريا ولا المنتصر أخلى ساحته وأوفى بالتزاماته إزاء المغرر بهم من المنخرطين في جبهته.

وإذ تنتهي الحروب كما أسلفنا بغنائم تستدعي ميزان محاصصة بين شركاء الظفر إلا أن شوكة هذا الميزان تتطلب هي الأخرى معايير ثقل في معادلات القوة وإلا توقف مؤشرها عند مركز التحكم.. أما إذا تحولت المعايير المقبولة إلى تراجيديا هازلة كالتي انتهت إليها معادلات الحرب الباردة التي ذهب ريعها لصالح الكيان الإسرائيلي بدلاً عن الذين شاركوا الولايات المتحدة الأمريكية خيارات المواجهة في غير مكان من العالم فإن ذلك لابد أن يقود إلى تحولات ارتدادية مروعة.

والواقع أن الجماعات الإرهابية المنضوية في إطار القاعدة تجد نفسها اليوم في أسوأ الأحوال حيث إن انتقالاتها المتطرفة من النقيض إلى النقيض أدى لتعريتها، إذ لم تعد مجرد مطية كما كان عليه الحال في الماضي وحسب ولكنها تأخذ صورة وحش يمارس نهمه للقتل كهواية منفلتة من بدهيات الرابط الإنساني أو احترام الضوابط الدينية والأخلاقية..

وطالما كان هذا شأن تلك الجماعات فإن دور النظام العربي والإسلامي في الحرب على الإرهاب لا يجب أن يحمل طابع الاختصاص أو المسؤولية المباشرة قدر كونه دفاعاً عن النفس وقياماً بواجب تضامني تجاه أمن واستقرار العالم.

ولا شك فإن رعونة الجماعات الإرهابية وتغاير التقديرات الأمنية والمواقف الإعلامية من دولة لأخرى وما تؤدي إليه من تشوش فادح الضرر بالموقف الجماعي من هذه الظاهرة يدعونا إلى اليقظة في مواجهة الاستهداف المزدوج الذي لا يميز بين هذه الدولة أو تلك.

وانطلاقاً من ذلك فإن النظام العربي والإسلامي إذ يؤدي واجباته نحو نظم الغرب وشعوبه أحوج ما يكون لضمانات جدية تحفظ لكل دولة استقلاليتها وتحول دون المحاولات الرامية لتوظيف الإرهاب مبرراً للتدخل الخارجي ومساعي استخدام العمليات الإرهابية وسيلة للإيقاع بين دول المنطقة إذ من شأن ذلك خلق بيئة غير صحية تساعد على ارتفاع منسوب التطرف وهو الأمر الذي سيحمل على إثارة الأسئلة الشائكة حول المقدمات التي قادت نحو تشكل الظاهرة الإرهابية عديمة الهوية..

ومن غير ذلك فإن الدرس على مرارته بالنسبة لأمتينا العربية والإسلامية يبدو غير مستوعب بالصورة المطلوبة التي تثمر العبرة والعظة وتحمي الأمتين من تكرار حالة الاستدراج وقابلية الوقوع في الفخاخ المنصوبة على منضدة سايس بيكو وفوق طاولة صموئل هيمونتل (صراع الحضارات) وما يقابلها لدى وزيرة الخارجية الأمريكية السابقة عن (الفوضى الخلاقة) وقبلهما ما أورده السيد كيسنجر وهي رؤى وتصورات جميعها تحلق ضمن أفق يجري التحضير لفرضه على طريق إحلال خارطة (الشرق أوسط الجديد)..

إننا حين نعيد قراءة التوجهات العربية والإسلامية خلال الماضي القريب ونوع وماهية مشاركتنا في وقائع وأحداث الحرب الباردة ينتابنا شيء من الذهول لأننا ذهبنا بعيداً عن سنن التدافع واخترنا حالة الانقسام بين هذا المعسكر أو ذاك دون تأمل في السنن الإلهية التي تجعل التوازن ضرورة حياة ومتطلب حماية لكل الشعوب المحكومة بنفس ظروفنا.

قد لا تكون ثمة ضرورة لتقليب المواجع ونكء الجراحات المثخنة في علاقات بلداننا مع الغرب ولكن ذلك سوف يبدو منطقياً متى تواترت مؤشرات الاستهداف لخيارات الشعوب العربية والإسلامية ونظمها السياسية..

ولئن كان البعض قد حاول استغلال قضية الطرود المفخخة في تعكير صفو الأجواء بين بلدين جارين فإن ذلك يكشف عن وجود طوابير مزروعة في كيان الأمة تتحين فرص النيل من مقومات الثقة المتنامية بين قادة الأمة والرهان على إمكانية الإخلال بمتطلبات العمل المشترك بين المؤسسات الأمنية العربية المعنية بمحاصرة الظاهرة الإرهابية..