هذه البقعة من العالم محكومة منذ قرون بلعنات كثيرة، ربما كان أشدها وطئا، وأبلغها أثراً هي لعنة الأبد، وهي اللعنة التي جعلت من حكامها مرضى محكومين بوهم الخلود.

الحروب التي تشهدها دول المنطقة وعلى رأسها سورية وليبيا واليمن والعراق سببها العميق هو وهم الأبد عند حكام هذه الدول، واعتقادهم بأن الدبابة التي جاؤوا عليها إلى حكم هذه البلاد جاءت بهم إلى مكان أبدي لا يتغير ولا يتزحزح، ولم تقبل عقولهم حتى مجرد التفكير في مناقشة هذا الأمر.

ووجه الشبه بين حكام الدول الأربع، أن كل منهم كان عسكرياً أخذ الحكم بالقوة، ثم تملكه وهم الأبد، فأراد أن ينقل حق الدبابة إلى ابنه، لأنه الوحيد الذي يحقق له شعور الامتداد إلى الأبد، وقد نجح حافظ الأسد في نقل الحكم إلى ابنه، بينما لم تكتمل محاولة القذافي وصالح، وحصل ما حصل قبل نجاحهما في تحقيق وهمهما، وبالطبع احتاج صدام حسين لجيوش جرارة ليوقف حيرته بين توريث عدي أو قصي، وحافظ الأسد حين أورث الحكم إلى ابنه أورثه أيضاً وهم الأبد، وها هو يتصرف مع شعبه منذ 5 سنوات بأبشع طريقة في العالم، وبقسوة لا يمكن تفسيرها إلا بوجود هذا النوع من الأوهام، أو أنه مصاب بتلك اللعنة.

في الثقافة الغربية هناك حكايات كثيرة عن حكام أوروبيين أصيبوا بهذا الوهم، وأمعنوا في الإجرام بحق شعوبهم والشعوب الأخرى بتأثير هذا الوهم، وقد تخلصت الشعوب الأوروبية منهم جميعاً، والأهم أنها تخلصت من لعنة الأبد، فلم يعد أحد في القارة الأوروبية يتوهم أنه يستحق البقاء في مكانه إلى الأبد، لا رئيس دولة ولا حتى مدير شركة، ولعل آخر أولئك المصابين بلعنة الأبد في القارة العجوز كان فرانكو ديكتاتور إسبانيا، والذي حكم إسبانيا بقبضة من حديد لعقود، ويروى عنه في آخر حياته وفيما كان يعاني سكرات الموت، تجمع بضعة آلاف من الإسبان أمام قصره، فدخل أحد مساعديه عليه ليخبره، بأن الشعب جاء ليودعه، وليقترح عليه أن يخرج إلى الشرفة ليلوح للشعب، فقال فرانكو مستغرباً: وإلى أين سيذهب الشعب؟ مات فرانكو، ومات أمثاله الكثر في بقاع الأرض المختلفة، وتخلص البشر من هذا النوع من الكائنات المريضة، ونحن العرب ربما نكون من أواخر الشعوب التي ما زالت تدفع ثمن هذه اللعنة.

حين نتأمل المشهد العربي اليوم سنجد بقايا تلك اللعنة موزعة هنا وهناك، وسنرى أثرها على كل شيء، سنراها على تركيبة المؤسسات والجيوش، سنجدها على وجوه الناس، في فقرهم وخوفهم، سنجدها في المباني المدمرة، وفي المدن التي هجرها سكانها، ولا تختلف سورية بذلك عن ليبيا ولا عن اليمن ولا عن العراق. وهي تبدو حكاية واحدة متكررة في كل واحدة من هذه البلدان، والاختلافات بينها شكلية وبسيطة، ربما تمتلك سورية خصوصية انتقال ذلك الوهم إلى جيل آخر، أي من أب لابنه، فجددت اللعنة شبابها، وامتلكت زخماً جديداً ها نحن نراه في براميل الموت، وفي استعداء السوريين على بعضهم، وفي الانقسام الحاد الذي يشهده المجتمع السوري، وفي هجرة الملايين وموت مئات الآلاف.

وهم الأبد في النهاية هو مرض كأي مرض آخر، ومن طبيعة الأشياء أن تكون هناك أمراض، ومن حق أي إنسان أن يصاب بمرض ما، لكن المشكلة في بعض الأمراض أنها يمكن أن تؤذي الآخرين، وعادة ما يتم الطلب من المصابين بها أن يمتنعوا عن مخالطة الآخرين، وهذا يحصل في أمراض كالإنفلونزا والسل، أو يتم الحجر عليهم بالقوة في أمراض أخرى مثل الجذام ومثل الأمراض النفسية الحادة، أو أن يتوقفوا عن مشاركة الآخرين في أداوتهم كما في أمراض الكبد مثلاً، ولا في إبداء المشاعر نحوهم كما في الإيدز وباقي الأمراض المنتقلة جنسياً، فماذا يمكن أن يفعل الناس مع شخص مصاب بمرض كوهم الأبد؟ يصيب بآثاره ملايين البشر، ويمكن أن يتسبب في موت مئات الآلاف، وبتغيير مصائر بلدان كاملة.

ليس بمقدور الناس أن تفعل سوى ما تفعله الآن، أن تقوم بثورات، وأن تسلك الطريق التي سلكها الأوروبيون لتتمكن في النهاية من تطهير مستقبلها من ذلك المرض، ذلك الوهم، تلك اللعنة.