فكر التردد والتوقف هو منهج علمي موجود في الواقع، وكذلك في المؤلفات القديمة والحديثة، والنهج في ثقافة التوقف ليس مجرد مسألة تحتوي أقوالا وأوجها وروايات في مذاهب أهل العلم، بل هو فكر وسلوك ومنهج يظل مصاحبا للعلماء والفقهاء والمحدثين والنحويين والفلاسفة وعلماء المنطق، بل للناس جلهم في أعمالهم الدنيوية والدينية، فما من اختيار ينقدح أمام العقل الإنساني بين شيئين في الغالب إلا ويأتي النهج والمسار المسمى "التوقف" حاضرا بكل قوة، وتحيطه الترددات والحيطة في انتهاج واتخاذ مسار محدد بين رأيين.

ولقد جاءت السير الذاتية لكثير من العلماء من فقهاء وأصوليين ومحدثين، مليئة بأقوال لهم تذهب إلى التوقف في كثير من المسائل الشرعية، سواء كانت فقهية أم أصولية أم حديثية، في الحكم على كثير من الآثار المرفوعة أو الموقوفة أو المقطوعة، بل إن إمام المذهب الأشعري "وأعنى مذهب الأشاعرة سواء العقدي أم الأصولي الفقهي المنتشر في أعظم أرجاء البلاد الإسلامية، سواء في الهند أو بلاد الشام أم بلاد مصر والمغرب" أبا الحسن الأشعري "رحمه الله" إمام الواقفية، وتابعه على هذا المنهج الفحول النظار من أتباعه، على رأسهم لسان الأمة الباقلاني، وإمام الحرمين الجويني، وحجة الإسلام الغزالي، ومبدأ هذه النظرية أنه متى ثبتت الاحتمالات المتكافئة، فقد لزم الوقف في الترجيحات بين المسائل المهمات الرئيسيات، والوقف المشترك لفظا ومعنى لا وقفا تردديا دون معارف وأصول علمية. لذا، فإن الوقف والتوقف يتوجب أن يكونا على مرجح، وهذا المرجح واجب معرفيا وأصوليا ومقاصديا.

فمعرفة حقيقة القول بمبدأ التوقف في المسائل العلمية الشرعية لدى أبي الحسن الأشعري تجعلنا نُلقي ضوءا ولو جزئيا على التحولات العلمية في حياة أبي الحسن الأشعري وهي كما يلي:

الحال الأولى: حال الاعتزال التي رجع عنها لا محالة، الحال الثانية: إثبات الصفات العقلية السبعة، وتأويل الجزئية كالوجه واليدين والقدم والساق ونحو ذلك وهي مرحلة تأثره "رحمه الله" بمذهب ابن كلاّب الذي تنسب إليه الطائفة الكلابية.

الحال الثالثة: إثبات ذلك كله من غير تكييف ولا تشبيه جريا على منوال السلف، وهي طريقته في الإبانة التي صنفها آخرا، وشرحها الباقلاني، ونقلها ابن عساكر، وهي التي مال إليها الباقلاني وإمام الحرمين وغيرهما من أئمة الأصحاب المتقدمين في أواخر أقوالهم والله أعلم"، وإن كان هناك من يُنازع في الحالة الثالثة، حيث ثبت لدى بعض الباحثين أن أبا الحسن الأشعري لم يكن له حال كان وغدا على طريقة أهل الحديث، بل إن الحالة الثالثة لم تثبت بل ظل على الطريقة الكلابية في إثبات الصفات، وعلى كلا القولين فإنها تحولات فكرية عميقة تجعل من ينظر في تلك الأقوال التي تبحث عن مراحل تطور أبي الحسن الأشعري وتحولاته الفكرية، أن يتوقف في الجزم والترجيح بين القولين السابقين، وإن كنتُ أعتقد أن هناك أمثلة ظاهرة في التحولات العلمية في حياة أئمة الفقه، سواء لدى أبي حنيفة أو مالك أو الشافعي أو أحمد بن حنبل، حيث إن لدى هؤلاء العلماء تراجعات وتحولات واضحة وظاهرة تدل دلالة ظاهرة على أن ذلك التحول والتقلب الفكري، والنزوع إلى التوقف والتردد طبيعية بشرية ملازمة للإنسان، وهي خصيصة وسمة من سمات حياته الدنيوية، تلك السمة قد خفيت أو تم إخفاؤها عن الفكر المجتمعي، مما يجعل كل مجتمع تختفي منها تلك السمة البشرية والمسار والنهج الفكري العميق في رؤيته للتوقف والتردد، يكون ذلك المجتمع أحادي النظرة، حديا في أقواله وأفعاله، لا يعترف بقدرة العقل الإنساني على تحمل الأقوال والرؤى والتوجهات والمسارات الفكرية التي لا يراها مجتمعيا أو معرفيا أو ثقافيا في محيطه الحياتي، مما أنتج ويُنتج فكرا سطحيا في وزنه المعرفي، ويفتقد العمق العلمي، وينفصم عن الرؤى الشرعية المقاصدية، بيد أنه في الواقع قد أحدث ويُحدث تدميرا واقعيا على حياة البشرية جمعاء، وأثر ويؤثر في الصورة الجمعية لمن ينتسب إلى الدين الإسلامي، وكذلك دمر ويُدمر الحقائق الدينية لدين الإسلام.

إن نشر ثقافة الوقف والتوقف والتردد وعدم الجزم، لهو مسار علمي ونهج معرفي يتوجب وجوبا عينيا على مفكري ومثقفي المجتمع أن يجعلوه من صميم تعليمهم وتثقيفهم وتربيتهم لأبناء الأجيال المقبلة، وذلك لأنه طريق من طرق القضاء على الفكر الإرهابي المتطرف، ومسار لدحض النزعات الإنسانية لشهوة الجهاد المسلح، وطريقة لكبح جماح التكفير.

يقول الجاحظ في طبقات الشك كما وصفها معلقا على أخبار ساقها عن غرائب الحيوان: "ولم أكتب هذا لتقرَّ بهِ، ولكنها رواية أحببت أن تسمعها، ولا يعجبني الإقرار بهذا الخبر، وكذلك لا يعجبني الإنكار له، ولكن ليكنْ قلبك إلى إنكاره أميلَ. وبعد هذا فاعرف مواضع الشّكّ، وحالاتها الموجبة له، لتعرف بها مواضع اليقين والحالات الموجبة له. وتعلم الشَّكّ في المشكوك فيه تعلُّما، فلو لم يكن في ذلك إلاّ تعرُّف التوقُّف ثمَّ التثبُّت، لقد كان ذلك ممَّا يحتاج إليه. ثمّ اعلم أنّ الشكّ في طبقاتٍ عند جميعهم، ولم يُجْمعوا على أن اليقين طبقاتٌ في القوَّة والضعف". ثم قال: "والعوامُّ أقلُّ شكوكاً من الخواص، لأنَّهم لا يتوقَّفون في التصديق والتكذيب ولا يرتابون بأنفسهم، فليس عندهم إلاّ الإقدامُ على التَّصديق المجرّد، أو على التكذيب المجرد، وألغوا الحال الثالثة من حال الشَّكّ التي تشتمل على طبقات الشك، وذلك على قدر سُوء الظنِّ وحُسن الظّن بأسباب ذلك، وعلى مقادير الأغلب".