منذ ثورة الخميني في إيران، والسلوك الرسمي الإيراني في الحج ليس كسلوك بقية أنظمة المسلمين، فإيران منذ ذاك التاريخ -انسجاما مع ثورتها ودستورها-  تحاول ممارسة مرفوضة في الحج، مرفوضة سياسيا، ومرفوضة دينيا.

أما سياسيا، فإن النظام الدولي والأعراف السياسية تؤكد على احترام كل أجنبي لأنظمة الدولة التي يزورها، تماما كما هو حال التزام السعوديين الذين يزورون إيران لأنظمتها، حتى البلدان القوية الكبرى تلزم مواطنيها بذلك.

لكن النظام الإيراني منذ ثورة الخميني يحاول خرق هذا النظام، بحجة أن الأماكن المقدسة للمسلمين جميعا. صحيح للمسلمين جميعا ليؤدوا مناسكهم، وليس ليمارس حجاج كل شعب سياسات بلدهم ومواقفها في بلد له سيادة ومسؤول عن أمن كل الحجيج.

إن الأمن العسكري مهما كان تفوقه وجهده، ليس هو ما يضمن أمن الحج، بل مهمته هي توفير الأمان النفسي داخل كل حاج، وهذا الأمان النفسي لا يكون إلا بالتفرغ التام للعبادة، وترك كل ما يمكن أن يشوّش عليها، أو يشكل قلقا للحجيج.

أي ضوضاء أو أي تجمع مفاجئ في الأماكن المقدسة، يسبب موجات من الذعر تنداح بين مئات الآلاف من البشر في ثوان معدودة، وتكسر شعور الأمان النفسي داخل الحاج، وقد فعلتها إيران كثيرا في مواسم الحج، وهي الآن ترفض السماح لحجاجها بالحج إلا بشروط تمليها هي على حساب ملايين الحجاج الآخرين.

والغريب أن إيران قد اختبرت أكثر من مرة رد الفعل السعودي والإسلامي على تصرفاتها، لكنها لا تعتبر.

أما دينيا، فالحج كما هو في القرآن الكريم، ليس مناسبة لممارسة السياسات الخاصة بكل بلد، ولا هو مناسبة لتسجيل المواقف السياسية لكل نظام، بل هو عبادة خالصة لله، يتجرد فيها المرء من كل ما عداها، ليعيش بين الملايين أمثاله أياما معدودات في سلام ومحبة، وتبادل منافع وممارسة شعائر يجب تعظيمها وعدم إشراك أي غاية أخرى فيها.

إن وصايا الله تعالى للحجيج تصحبهم في حركتهم داخل المشاعر، وتعلمهم آداب الحج وما يجب فيه وما لا يجوز. وجدير بكل حاج أن يعيد قراءة هذه الآيات كلمة كلمة: "الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الأَلْبَابِ* لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُواْ فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ فَإِذَا أَفَضْتُم مِّنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُواْ اللَّهَ عِندَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِن كُنتُم مِّن قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ* ثُمَّ أَفِيضُواْ مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُواْ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ* فَإِذَا قَضَيْتُم مَّنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُواْ اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا فَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ* وَمِنْهُم مَّن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ* أُوْلَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِّمَّا كَسَبُواْ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ* وَاذْكُرُواْ اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَّعْدُودَاتٍ فَمَن تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَن تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى وَاتَّقُواْ اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ"، ثم يختم الله تعالى هذه الوصايا بقوله: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ ادْخُلُواْ فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ".

في الآيات الخاصة بالحج ترد كلمة "الناس" كثيرا، "وأذن في الناس بالحج"، "من حيث أفاض الناس"، "أول بيت وضع للناس"، "ولله على الناس حج البيت"، هذا يعني أن التجمع في موسم الحج ليس لمذهب ولا لمذاهب ولا لفرق ولا لأنظمة، وإنما للناس رغم اختلافات أفكارهم، الأمر الذي يقتضي توفير الأمن النفسي لهم جميعا، وعليهم هم ترك اختلافاتهم الدنيوية وراءهم، فهذا المكان يجمعهم على التآلف والمنفعة والحب، وليس على المنازعات والجدل.

يشعر المرء بالأسف، لأن حاجا واحدا نوى الحج ولم تمكنه بلده من ذلك، كما لا يمكن القبول بأي مساس بأمن الحاج وأمن البلد وسيادته.