(لَيْسَ مَنْ ماتَ فاسْتَرَاحَ بِمَيْتٍ = إنَّمَا المَيْتُ مَيِّتُ الأَحْيَاءِ
إنَّمَا المَيْتُ مَنْ يَعِيشُ ذَلِيلاً = سَيِّئًا بالُهُ قليلَ الرَّجاءِ)
عَدِيُّ الغَسَّانِيُّ
من الذكريات التي حفرت في الذاكرة الجمعية مواقف الملك فيصل السياسية، رحمه الله؛ لكن يوم رحيله كان يوما لا ينسى لطفلة رأت الحزن على وجه أبيها والصدمة على وجه أمها وهي ترمي بما تحمله بقوة على الأرض وتصرخ حين سمعت الخبر من زوجها! لحظتها أدركت تعانق عظمة الحب وفجيعة الفقد! ولن أحدثكم عما تعرفون عن الملك فيصل، لكن سأنتقل بكم للملك خالد، رحمهما الله، فقد كان يوم رحيله حزينا وكنا قد كبرنا على حبه وتلمسنا إنسانيته فكان موته - كأي موت- مفاجأة صادفت يوم إعلان نتائج امتحان نهاية العام.. بعد يوم متشح بالسواد سألني والدي الحزين قبل أن ننام لماذا لم أخبره عن النتيجة فأجبته نجحت ولكن الملك خالد مات!
مقدمة للحديث عن رمزية حبنا لأسماء أثرت مشاعرنا وذاكرتنا وحين تأتي ذكرى رحيلهم نشعر بغصة تشبه غصة فقدهم الأول؛ فمنذ أن تفتح الدنيا أبوابها المشرعة لاستقبال إنسان يتحول بعض الناس ليصبحوا دون أقرانهم وأقاربهم لرموز للحب بين الناس، فيحظى طفل بقبول لا يحظى به أقرانه، ولا ندري هل السر أنهم يملكون ثراء من نوع خاص يشد الناس لهم أم أن عظمتهم اللاحقة أفاضت على طفولتهم السابقة وفقدهم اللاحق! ومهما جد الناس باحثين عن مبررات منطقية لتعليل رمزية الحب التي يرفل فيها إنسان ويحرم منها غيره ستظل تفسيراتنا ناقصة؛ فالمحبوب الرمز بظني غير قابل للتفسير!
محمد علي كلاي، رحمه الله، من هذه النماذج التي نجد أنها امتلكت البطولة في ساحة النزال والموقف السياسي والإنساني فيسهل تعليل حب الناس له، لكن هذا الحب والبطولة حين شرحها لجيل يعيش اليوم، ولم يدركها نعطيهم ومضة ولا ننقل لهم مشاعرنا.
من الأسماء التي لا تنسى ونستحضرها في رمضان الراحل الدكتور الوزير السفير غازي القصيبي، هذا الرجل لم يكن يتنقل على حلبة المصارعة يلكم خصومه ليرد لهم ما يبادرون به؛ بل كان يكتب فقط وينشد الشعر فقط ويصلح كل مكان يمر به، لم تشغله المناصب التي شغلها كما يوصف دائما بأنه كان أكبر من الكرسي!
من أسرار عظمة القصيبي إنسانيته التي طافت ترفق حتى بالفراشات الجميلة وتتعاطف معها.
راحل آخر هو سعود الدوسري رحل بضجيج الفقد لم يكن بطلا قوميا، لكنه تحول لرمز إعلامي منذ بدأ هل أحبه محبوه لصوته الرخيم؟ ربما، لكن لم يكن الصوت وحده، فرخامة الصوت افتقدها الكثير ممن رحلوا وتركوا لنا حبهم خالدا بل أيضا إنسانيته التي ختمها بآخر برنامج قدمه كان اسمه (ليطمئن قلبي).
في نهاية ذلك الصيف رحل سعود الفيصل لتكتمل حرارة الحزن وحرارة الصيف، سعود حتى تعرف قيمة فقده تذكر أن عاش حياته مدافعا عن أهم قضاياه فلسطين والوطن وهذان هما باختصار ما يعنيهما لنا سعود الابن الذي ورث صلابة أبيه في مواقفه التي يتبناها بلا مساومة.
أخيرا الشبل الماجد، وقبل سنوات الصميت الذي اقتحم إفريقيا وآسى شيئا منها وقبلهم الشيخ الطنطاوي الذي ما يزال يحدثنا ضاحكا في رمضان على مائدة الإفطار.. ولا ينتهي الحديث عن المؤثرين في وجداننا فرغم انقطاع الرابط الأسري أو الاجتماعي تتباين قوائمهم حسب تباين اهتماماتنا ونظرتنا للحياة وربما مصالحنا.. وقد خلفوا فراغا لا يملؤه إلا حبهم الذي زرعوه لنا في هذا الفراغ شجرة تظللنا عن هجير غيابهم.. بل تكشف لنا الأيام أسماء كنا نجهل فضلها تذكر وتشكر في موسم تأبين متكرر وربما اعتذار كفرج فوده الذي اغتيل لسبب كاذب ومغتاله لم يقرأ له حرفا لكنه قتله بسبب تحريض!
ربما تعلمنا من مناسبات قوقل تأبين الذكرى، وربما لا لكن المؤكد أن الإنسان وانطلاقا من حنينه للماضي يضع وردة كلام على قبر أحد الراحلين فما هي إلا دقائق وتتبعه مئات من ورود الكلام الملونة!
ترك لنا الراحلون الشعر نستمتع به بأصواتهم الرخيمة، وتركوا الكلمات تشكلنا والمواقف تدفعنا لمحاكاة جمالهم وكل ما يسعدنا منهم، وأظن أن ما تركوا لنا الإنسانية الأمانة المشتركة التي أجادوا حملها بقلوبهم وعقولهم ففاضت منهم دون غيرهم لتصنع هذا الخط الشبيه بالجاذبية وبخطوط الطول والعرض على سطح الكرة الأرضية تؤثر في حياتنا دون أن نراها أو نلمسها لكننا نؤمن بها جدا!
صورة السلفي الأخيرة أو الحلقة الأخيرة أو الابتسامة الأخيرة أو اللقمة أو اللبنة الأخيرة لا تصعد مع النفس الأخير بل تلوِّح بحب وتذكرنا أنهم ما زالوا يقيمون هنا!