لا نكاد نسمع عن قوة الوازع الديني لكنا نسمع كثيرا عن ضعف الوازع الديني، وأن ضعف هذا الوازع هو أقوى أسباب الفساد الإداري حسب استفتاء قامت به ونشرته، مشكورة، هيئة مكافحة الفساد على موقعها في الإنترنت، فما هو هذا الوازع الديني؟ وهل هو سبب في فساد الفاسدين؟
"أوزعَ" في اللغة تعني أغرى وحرّض وحبّب في فعل الشيء، ومنه قوله تعالى "ربي أوزعني أن أشكر نعمتك"، أما وَزَع فتعني، في اللغة، مَنَع عن فعل الشيء، ومنها جاء "الوازع" بمعنى المانع، والوازع الديني معناها المانع الديني، وهي موضوع هذه السطور.
حضرت مرة في مكتب مدير عام كان يوصي الموظف الجديد أن يضع في اعتباره أن الله تعالى يراقبه في عمله وسيحاسبه.
الموظف الجديد يعرف هذا من قبل ومن بعد وصية المدير العام ولن تزيده الوصية علماً، لكن شعور الموظف برقابة الله ومحاسبته قد يكون قويا وقد لا يكون، في الناس من هو ذو دين لكنه فاسد إداريا، وفيهم من هو بلا معتقد ديني لكنه نزيه إدارياً.
في العمل العام لا تترك الأمور للنوايا ولا للأديان ولا للمجتمع، الأنظمة وحدها هي التي تضبط العمل والرقابة والمعاقبة، بصرف النظر عن درجة إيمان ودين كل موظف، ولهذا كان المفروض على المدير العام أن يمدّ قليلا في نصيحته لموظفه الجديد فيخوفه أيضاً بالنظام، فالله تعالى في علاه يحاسب الفاسدين حين يشاء وكيف يشاء، أما نظام الإدارة فهو يجتهد في الرقابة والمحاسبة عقب الأفعال مباشرة، ذلك لأن الإدارة البشرية قاصرة وليس لها يوم بعث ونشور لترجئ حساب الفاسدين لذلك اليوم، فالموظف الفاسد ينزعج من رقابة النظام وحسابه الحاضر وليس من رقابة الله الحاضرة وحسابه المؤجل.
لا نصوص النظام ولا نصوص الدين لديها القدرة على تطبيق نفسها بنفسها، فالوازع النظامي هو نصوص في نظام الإدارة لا فعالية لها إلا بتطبيق جماعي متعاون وأمين ومستمر وهذا في متناول الإدارة أن تفعله. والوازع الديني كذلك نصوص دينية أما تطبيقها فهو شأن يتعلق بالمرء ونواياه سواء كان موظفا أم غير موظف وحسابه على الله. وكذلك الوازع الأخلاقي فهو مجموعة قيم اجتماعية بين المرء ومجتمعه. والنظام الإداري حين يعاقب الفاسد لا يعاقبه لأنه ارتكب مخالفة دينية أو أخلاقية، بل لأنه ارتكب مخالفة نظامية. ربما يقول قائل إن السرقة من المال العام مخالفة دينية ونظامية وأخلاقية، هذا صحيح لكن العقاب الإداري لا يكون مسَبّباً إلا بالمخالفة الإدارية وفق فقرات من النظام الإداري وصلاحيات من هذا النظام وبتفويض منه.
لا معنى لوجود "ضعف الوازع الديني والأخلاقي" بين أسباب الفساد المالي والإداري لأن الإدارة التي تقتنع بذلك إنما هي تتخلص من ثلثي المسؤولية، فتضع ثلثا على المسؤولية الدينية للموظف، وتضع ثلثاً على المجتمع وهذا غير معقول ولا مقبول.
من بين الأسباب التي وردت في استفتاء هيئة مكافحة الفساد: ضعف أداء الجهات الرقابية، ضعف الجهات الرقابية والقضائية، الأساليب الفاسدة سبب في سرعة الحصول على الخدمة، القبول الاجتماعي لبعض مظاهر الفساد، التساهل في تطبيق العقوبات النظامية، وهذه الأسباب كلها يمكن إدراجها تحت سبب "ضعف الوازع الديني والأخلاقي"، ولو أدرجناه تحته فنحن نشرّع عمدا للفساد الإداري والمالي.
حين يتعلق الأمر بالفساد المالي والإداري فيجب ألا نفكر مطلقا في ما نسميه "الوازع الديني والأخلاقي"، لأن هذا تمييع للأمور وتبرير للفساد على حساب الدين وعلى حساب المجتمع.
لا بد أن نعترف أن للفساد الإداري والمالي سببا واحدا لا ثاني له هو: ضعف النظام الإداري في نصوصه وآلياته وتطبيقاته.
وبحسب استفتاء هيئة مكافحة الفساد هل يمكن لنا أن نعتبر أن النظام الإداري هو نفسه يعاني من ضعف الوازع الديني والأخلاقي؟!