أتاحت حلقة "معرض الكتاب" من البرنامج التمثيلي "سيلفي" (تأليف خلف الحربي) فضاءً يميزه فعل العرض والإظهار الذي تدل عليه مناسبة "المعرض" وفي خصوص محدَّد وهو الاتجاهات والمجموعات التي ينقسم إليها المجتمع في الفكر والذوق والسلوك والنوع الإنساني. وهذه دلالة تظهر بتمامها حين يكون المعرض "معرض الكتاب". فإذا كان العرض والإظهار لشيء ممارسة تجارية للتعريف بالسلعة والترويج لها من أجل اكتساب عوائد البيع لها، فإنه –أيضاً- ممارسة لعرض الذات وأفكارها ومواهبها ورغباتها. وهذه الممارسة الأخيرة هي ممارسة لإظهار القوة والسلطة والنفوذ، بمعان لا تنحصر في الفردي، وإنما تجاوزه إلى اتجاهات مختلفة ومتصارعة ينقسم عليها (وإليها) المجتمع. و"الكتاب" بالبداهة ليس موضوعاً محايداً تماماً، وإنما يندرج بسبب موضوعه أو أفكاره أو منهجه أو مؤلفه، في موقع نسبي من مواقع القوة والصراع في المجتمع.
من يحق له الظهور؟ والتصدر؟ والهيمنة؟ بدا التساؤل بهذه الكيفية مدار الصراع في الحلقة، مثلما هو مدار الصراع في كل المجتمعات. وتوزَّع الصراع في ثنائيات متعارضة، أبرزها: المحتسب والليبرالي، والشاب والعجوز، والأنثى والذكر، والمعرفي والأيديولوجي، والمبدئي والنفعي. وهو صراع بدا – من بعض جوانبه- وكأنه صراع مانوي بين الخير والشر؛ إذ لا يرى كل طرف إمكانية للقبول بالآخر. حتى الذين يمكن تصنيفهم في الطرف الليبرالي والشبابي كانوا إقصائيين وآحاديين وأدل على الاستبداد. وكان الصراع دالاً على عنف جذري باستخدام توصيفات "الكفر" و"الفسق" و"الإرهاب" حيناً، ومحاصرة المرأة وفرض الاستبعاد عليها، ووقوعها عرضة للتحرش حيناً آخر.
لكن دلالة أكثر بروزاً في الحلقة بدت في طغيان مشهد الشاعر الشاب "يعقوب" بدلالة سلوكه على التفاهة والنرجسية والعبث، وهو من حاول في أحد جوانب المعرض التحرش بالشاعرة الشابة "عزيزة"، يحتشد في مناسبة توقيع ديوانه جموع من الشباب والشابات. إنه دلالة على حضور للشباب، خصوصاً والمشهد مكتنز ضمن ذلك بإزاحة الشاعر الشاب للشاعر والأكاديمي العجوز ذي الصفة المدرسية المعلَّبة "الدكتور صبحي شفتَلَّك" باغتصاب مكانه ووقته في توقيع كتابه المعنون بعنوان مسجوع في موضوع حداثي "النقد التشكيكي في المذهب التفكيكي" والمفتقد لحضور أحد لحفلة التوقيع لديه.
ولا ينفصل عن مشهد الشاب في تلك الدلالة، مشهد الشاعرة الشابة التي كانت عرضة للمزاحمة والتعدي والإسكات في لقائها التلفزيوني الذي اقتحمه رجل ليأخذ أكثر وقتها، ثم المحتسبون ليطلبوا منها تغطية وجهها، وهي نفسها موضع لف ودوران الشاعر النرجسي الرقيع. وقد طاردها الإقصاء على منصة الأمسية الشعرية، وفُرِضت عليها ستارة ظلّت تتشبث مطِلَّةً من نافذتها الصغيرة لتلقي قصيدتها، وتكرِّر في إصرار وغُنْج جملتها الوحيدة: "يا واد إنتَ! بَلا في شَكْلك" وهي مسرورة بهتاف الجمهور وتصفيقهم لها. وذلك دلالة على حضور المرأة بإصرار ومقاومة، وهو حضور مختلف في لغته الشعرية للتدليل على حضور نوعي غير مؤطَّر بالشعرية كما يفرضها الرجل؛ إنه حضور أنثى.
لقد كان حضور الشباب وحضور الأنثى في ضوء المشهدين السابقين تلقائياً واقتحامياً، ومفارقاً للصلابة المفروضة، حتى بدا المعرض وكأنه يفيق على وقائع متغيرة!
إن السؤال عمّن يحق له الحضور، والتصدُّر، والوجود، والهيمنة، الذي اتخذته الحلقة مداراً للصراع بين شخصياتها، هو السؤال الذي تُشَخِّص إجابته الصراع في حياة أي مجتمع من المجتمعات، سواء من حيث شكل هذا الصراع الذي ينقسم فيه المجتمع إلى أطراف بمعان مختلفة، تتوتّر العلاقة بينها بسبب محاولة كل طرف احتكار التصدر والهيمنة والظهور، أي امتلاك السلطة، وهي القوة، أم من حيث موضوعات هذا الصراع التي تحصر الأطراف الاجتماعية في ثنائيات متقابلة، تبعاً للأفكار والسلوك والموقع الاجتماعي. ولذلك لا يمكن أن نرى قوة اجتماعية منفردة بذاتها، وميشيل فوكو يعرِّف السلطة، بأنها "علاقة قُوَى" أي لا نراها إلا وهي منخرطة في علاقة مع قوة أخرى: علاقة صراع وسجال وتدافع وتأثر وتأثير.
هكذا –إذًا- لا يبدو الصراع الذي عرضته حلقة سيلفي تلك، صراعاً فريداً من نوعه، وليس من سبيل إلى منع الصراع بتلك الصفة في أي مجتمع. الشيء الفريد في الصراع كما بدا في الحلقة هو عنفه اللفظي وجذريته. كأن الأطراف المتصارعة على أحقية الظهور ومشروعيته، لا تجتمع في تعاقد قانوني –وهم أبناء وطن واحد- يجبرهم على الوقوف معاً ضد العنف تجاه بعضهم بعضاً وضد استبعاد بعضهم لبعض. كأنهم بجذرية الرفض والاستبعاد لبعضهم بعضاً في مسافة أبعد من الحدود التي تسمح باجتماعهم وتعاقدهم على التشارك والتعايش الذي لا بديل عنه إلا الصراع.
إن مشكلة الصراع الحدي والجذري أنه صراع يأخذ علاقة ثنائية، كما رأينا، مغلقة على حديتها: أبيض أو أسود. ولذلك فإن عنف هذا الصراع الظاهر والمستتر هو عنف بنيوي أي عنف نابع من تركيبة الصراع. إعادة بناء الثنائيات بتفكيكها لاكتشاف التعدد الذي يجاوز حديتها ويدرجها في اختلافه، هو ما يبدد توتر الصراع ويُبطل وثوقيته. وعلى كثرة ما نتحدث عن قيمة الحوار والنقد والثقافة، وكثرة الدلائل التي تبرهن على وعينا بأن علاقة الصراع والتنافي بين المكونات الفكرية والاجتماعية عنيفة ومرشحة لمزيد من التفاقم، فإننا نذهب بمعنى الحوار إلى المجادلة والوعظ والإقناع الذي يأخذ وجهة واحدة من مرسل إلى مستقبل، والمرسل دائماً في الأعلى وليس في وضع مساو للمستقبل. كما نذهب بالنقد إلى معنى قريب من ذلك يجمع بين إرادة التصحيح وبين الأحكام القيمية المعيارية. وهو المسار نفسه الذي جعل الثقافة خطاباً متسلطاً في الغالب تقرؤه في الرواية وفي القصيدة وفي المقالة؛ فتجد نرجسية طافحة، ورائياً يرى ما لا يراه الآخرون، وناشطاً حقوقياً يتوسل بالثقافة إلى الحقوق المفقودة من وجهته. وكل ذلك سجن للوعي، بما فيه وعينا الوطني، آن الأوان لمجاوزته.
كان من هَمِّ حلقة سيلفي عن "معرض الكتاب" أن تكشف عن سجن الوعي في فضاء مُعَد أصلاً لوعي مفتوح بحكم علاقته بالكتاب الذي يتضمن دائماً دلالة نقص تبرِّر تأليفه ومجاوزته في الوقت نفسه. لكن دلالة الحلقة على سجن الوعي لم تقتصر على تمثيله بالانحصار في صراع بين قطبين، ولا في تخلُّف موضوعات الصراع عن الأفق المفتوح للعصر الذي يندرج المعرض في الدلالة عليه، بل جاوزت ذلك إلى الدلالة على قشرية الثقافة ومظهريتها وذرائعيتها على النحو الذي مثَّله الشاعر يعقوب وجمهوره.