لم أجد فيما بين يدي من كتب ودراسات ما يوجب على الناس أن يكونوا أمة واحدة على قلب رجل واحد، بل الموجود خلاف ذلك، وتلك مقتضى حكمة الله عز وجل في قوله {وَلَوْ شَاءَ اللهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ}.

بل إن الله قضى: بأن اعتقاد لزوم اجتماع الناس على الهدى جهل بقدرة الله وحكمته في خلقه؛ قال سبحانه {وَلَوْ شَاءَ اللهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ}.

والحكمة من ذلك لا تحصى، منها:

أولاً/ فتح مجال المنافسة بين الخلق في عبادة الله بلا شرك، وعمارة الأرض بلا ظلم، واستباق الخيرات؛ كما في الآية الأولى.

ثانياً/ أن الاختلاف بين الناس سبب في تفاوت درجاتهم؛ سواءٌ في الجنة أو في النار.

ثالثاً/ أن ربوبية الله وألوهيته وما قضاه سبحانه من حساب وجزاء وقضاء وقدر مرتب على ذلك الاختلاف بين الخلق، فبه تتحقق أسماء الله وصفاته؛ سواء: بالإنعام أو بالانتقام.

رابعاً/ أن الله أراد ذلك بهم ومنهم ولا راد لقضائه؛ قال سبحانه {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ}.

خامساً/ حذر الحبيب المصطفى صلّى الله عليه وسلّم من عاقبة الخلاف فقال [إِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ وَأَعْرَاضَكُمْ حَرَامٌ عَلَيْكُمْ، كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا، فِي بَلَدِكُمْ هَذَا، فِي شَهْرِكُمْ هَذَا، وسَتَلْقَوْنَ رَبَّكُمْ فَيَسْأَلُكُمْ عَنْ أَعْمَالِكُمْ، فَلَا تَرْجِعُنَّ بَعْدِي كُفَّارًا - أَوْ ضُلَّالًا - يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ] رواه مسلم

ومن هنا وجب على الناس أمورٌ؛ منها:

1/ أن تكون همتهم في مقدار ما يحققون به الحكمة الأولى من خلقهم؛ وهي عبادة الله بما شرعه لهم وأراده منهم، وبلغه إياهم في كتبه المنزلة على رسله إليهم؛ قال جلت عظمته {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ}.

2/ أن يجتهدوا في الاستزادة من القرب من الله، والبعد عما حرم الله؛ في سباق إلى مرضاة الله، واستباق لخيرات الله في الدنيا والآخرة.

3/ أن يحرصوا على نفع بعضهم البعض؛ بنشر المعرفة، والدعوة إلى سبيل الله بالحكمة والموعظة الحسنة والمجادلة بالتي هي أحسن.

4/ أن يعلموا أن الحق ليس حكراً على أحدٍ بعينه، فقد يوفق البعض في صواب بعض أعماله، ويحرم الصواب في بعضها، في الوقت الذي يوفق فيه غيره، وهكذا.

5/ أن المفاضلة ليست في إدراك الحقيقة المطلقة؛ فتلك غاية لا يدركها حتى الأنبياء، بل التفاضل في مقدار ما يوفق فيه المرء وما يحرم منه.

6/ أن الاختلاف سنة كونية قدرية؛ لا سبيل للفكاك منها، ولا لتحصيل ضدها، فلزم الجميعَ التعايشُ معها والتسليمُ بأحكامها.

7/ أن لكل شيء حدوداً تبدأ منها، وتنتهي إليها.

8/ أن الله كفل لحقوق الأفراد والجماعات ألا تتعارض مع بعضها تعارضاً يوجب المواجهة والمضادة، ولذلك جاء الشرع بحسم مادة الخلاف بقواعد وأحكام صادقة شاملة.

9/ أن على الحكومات تهيئةَ الناس لتحقيق ما يريده الله منهم؛ سواء في عبادته، أو في عمارة الأرض، وضبطَ أمور الناس المعاشية، ومنعَهم من البغي على بعضهم.

10/ أن على الحكام أن يعلموا: أن خلافة الله في الأرض لا تكون بغير العدل، وأن العدل هو المراد الأول للشعوب؛ فتحققه يبقي الحكام حكاماً، ويُقنع الشعوب بهم.

11/ أن على الحكام أن يدركوا: أن جمعَ الناس على شيءٍ واحد ليس عدلاً ولا حكمة، بل الحكمة تقتضي: تركهم وما يعتقدون ما داموا في حدود الاجتهاد الممكن، والعدل يقتضي: السيطرة على تعايش المختلفين مع بعضهم بلا تجاوز ولا اعتداء.

لقد أدرك أوائلنا ذلك، فتعايشوا فيما بينهم على اختلاف مللهم وطوائفهم ومذاهبهم، بل إنك لتجد - ظاهراً - أن يأخذ بعضهم من بعض ما يحسنه المأخوذ منه ويفتقده الآخذ؛ بلا تمييز ولا احتكار.

ولما تدخلت السياسة الدنيوية الدنيئة في حياة الناس أدرك الساسة: أن بقاءهم رهنٌ بتناحر من يسوسونهم وتفرقهم، فبثوا الفرقة بين الجماعات؛ لينشغلوا فيما بينهم، بينما يرتعون هم في مقدرات أممهم وخيرات شعوبهم.

فتفرق الناس في أصول العقيدة إلى طوائف، وفي فروع الشريعة إلى مذاهب، وفي السلوك والتصوف إلى طرق، وفي السياسة إلى أحزاب، وفي مناهج التربية إلى جماعات.

ولم يكن اختلافهم اختلاف تخصص وتنوع، بل اختلاف تضاد وتناحر، فسلَّط القادة أتباعهم على من خالفهم، فتناحروا عبر التاريخ، وتفرغ القادة للسيادة يتوارثونها كابراً عن كابر، على حساب أولئك الهمج والرعاع، وصدق الله العظيم {وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا * رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا}.

إن على العقلاء من العلماء والمثقفين قطع الطريق على من يريد بالناس الفرقة والتناحر، في أي باب من أبواب الاختلاف الممكن، فلا بقاء مع الاختلاف، ولا نصر مع التفرق، ولا عز إلا باجتماع الكلمة.