اللويا جرقا "جرغا" تقليد أفغاني عريق، يتمثل في عقد مجلس شعبي كبير من شيوخ القبائل وعقلائهم وذوي الرأي والمشورة فيهم، لحل المعضلات الكبار التي تتعرض لها أفغانستان على مدى تاريخها. ومن عادة هذا المجلس الشعبي أو الاجتماع القبلي الكبير، أنه إذا انعقد فإنه لا ينفضّ حتى يصل إلى نتيجة يرتضيها المجتمعون حلاً للقضية التي اجتمعوا من أجلها، مهما طالت مدد اجتماعاتهم.

وليس ببعيد عنا اللويا جرقا التي انعقدت عام 2003 على إثر سقوط حكومة طالبان على يد الأميركان، بهدف البحث في تقرير مصير أفغانستان، فتوصل المجتمعون إلى تشكيل حكومة مؤقتة برئاسة حامد كرزاي، وأيضا مناقشة مسودة الدستور المقترح الذي أقر في لويا جرقا أخرى انعقدت في مدينة كابل عام 2004، وهي التي مهدت الطريق لإجراء أول انتخابات رئاسية في البلاد جاءت بحامد كرزاي نفسه، ثم ما تبعها من إجراء الانتخابات التشريعية في العام التالي 2005.

وكما هو معلوم فالمجتمع الأفغاني مجتمع قبلي كثير الخصومات والمنازعات والحروب التي ما إن تصل إلى طريق مسدود إلا ويتصدى لها هذا النوع من المجالس الشعبية التي غالبا ما تضع حدا للحروب، وتعمل على حقن الدماء، وحل مشكلات البلد مهما تعاظمت، خصوصا حينما يكون الصدق والثقة وحسن النية حاضرا في أنفس المجتمعين، وتلك من الميزات المصاحبة في الغالب لكل وساطة أو مساع قبلية.

ومن يستعرض تاريخ الجزيرة العربية بمختلف مراحله، يجد أن الأعراف القبلية بما فيها التدخل لإنهاء الخصومات والحروب بين القبائل، كانت هي السِّمَة المنظمة لحياتهم، خصوصا في ظل غياب سلطة الدولة المركزية القَوّية.

والشعب اليمني شعب قبلي مسلح في غالبيته، وكان على مدى تاريخه لا يخلو من المشكلات والنزاعات التي قد تصل إلى اندلاع الحروب بين طرفين، أو عدة أطراف فيحتكمون إلى السلاح، والإصرار على الصمود حتى لو كان فيه فناؤهم جميعا، فيتصدى مشايخ القبائل وعقلاؤهم وفق أعراف قبلية متوارثة تخولهم التدخل بمساعيهم الخيرة لإيقاف تلك الحروب، وكثيرا ما كانوا ينجحون في حقن الدماء، ووضع حد للاقتتال، ولا أستبعد أن لشيوخ القبائل الذين كانوا ضمن وفود الملكيين والجمهورين دورا مساعدا في وضع حد لأطول حرب اندلعت في اليمن في العصر الحديث، بعد انقلاب المشير عبدالله السلال على الإمام محمد البدر في سبتمبر عام 1962، تلك الحرب التي اندلعت بين مؤيدي الملكية وبين مناصري النظام الجمهوري الجديد، وما تلا ذلك من التدخل العسكري المصري الذي أودي بحياة الألوف من اليمنيين، إلى أن انتهت تلك الحرب بالمصالحة والتسامح، ووضع اليد في اليد لبناء اليمن الحديث، لولا توالي الضباط العسكريين على حكمه، وآخرهم المخلوع علي صالح الذي كذب على شعبه وعلى من سواهم على مدى أكثر من 30 عاما. وحينما تركه اليمن وشعب اليمن عزَّ عليه أن يترك اليمن وفيه نفس من حياة، فكان ما كان من تآلفه مع الحوثيين، وما أفضى إليه ذلك التآلف من نشوب حرب ضروس أزهقت الأرواح، ودمرت البنية التحتية لليمن، وشردت ألوف اليمنيين من بيوتهم ومزارعهم، وأعادت اليمن عشرات السنين إلى الوراء، وتركت في الأنفس من الحزازات والضغائن ما لا تمحوه السنون.

وعلى الرغم من استمرار الوساطات الأممية لتحقيق المصالحة اليمنية على ضوء القرارات الدولية من جنيف وفينا وعمان إلى الكويت، فإن حلا قريبا لا يبدو أنه يلوح في الأفق، والسبب في ذلك ربما يعود إلى انعدام الثقة، وغياب حسن النية بين الطرفين؛ لأن السياسيين غالبا ما يرتابون في نوايا بعضهم بعضا، وليس لديهم الاستعداد للتزحزح قيد أنملة عن مواقفهم المعلنة، ولا يبدو أنهم جادون في الالتزام بوقف إطلاق النار في الميدان خلال التفاوض؛ لأن كل طرف منهم، خصوصا الجانب الحوثي يسعى إلى اكتساب مزيد من الأراضي في ميدان القتال، كي يعزّز موقفه في التفاوض، وفي الحصول على مزيد من التنازلات من الطرف الآخر، وهذا من شأنه أن يبطئ بحل المسألة اليمنية في الوقت القريب، وإطالتها لن تؤدي إلا إلى مزيد من المآسي لليمن.

لذلك، أطرح هذا التساؤل الرامي إلى مدى الحاجة إلى عقد مجلس قبلي كبير من مختلف أطياف قبائل اليمن تهامتها وسراتها على نفس نمط مجالس الشعب الأفغاني "اللوياجرقا" في مكان تتوافر فيه كل وسائل الراحة، وحرية المباحثات، وتداول الرأي، وليكن في الكويت مثلا، أي ليس بعيدا عن مكان السياسيين ليكون موازيا ومساندا في الوقت نفسه للجان التفاوض من السياسيين الذين يواصلون اجتماعاهم حاليا في الكويت على مدى شهرين دون نتيجة تذكر. ولعل في وجود هذا المجلس ما يعجل بالحل؛ ذلك لأن الوساطات والحوارات القبلية، وطبقا لأعرافها غالبا ما تسودها الثقة، وحسن النية والوضوح، ولا تركن إلى الخداع والمراوغة والمناورات السياسية، والتلاعب بالألفاظ، وأن الرجل من القبائل إذا مَسَك على ذقنه، أو عَدَل بسلاحه "أي رهنه" فإن ذلك كفيل بصدق نواياه، وتصديقه في الوقت نفسه بنوايا الآخرين، وأنه أكثر تسامحا وتنازلا وقبولا للوجاهات من السياسيين، وهذا ما قد يسهل الوصول إلى حل يرتضيه جميع الأطراف. وقد طالعتنا الأخبار خلال احتدام المعارك في اليمن بوجود وساطات قبلية نجحت فيما بين الحوثيين وقوات التحالف العربي بقيادة المملكة لإدخال المواد الإغاثية إلى اليمن، وتبادل الأسرى بين الجانبين، وكذلك فك الحصار عن قوات متحاربة في رداع، وأخيرا ما تم قريبا من تبادل الأسرى بين الشرعية والانقلابين بناء على وساطات قبلية، وهذا ما عجز المتفاوضون عن الوصول إليه.