يشرح لي صاحبي، وهو المسؤول الحكومي المرموق، حجم أوراق وإضبارات مئات آراء المستشارين وبيوت الخبرة المحلية والعالمية التي اكتشفها في أرشيف إدارته الكبرى، وتتراكم وتتزايد في العقدين الأخيرين من الزمن حتى باتت في حاجة إلى جناح تخزين مستقل في إحدى زوايا الإدارة. هو يتحدث عن التناقض والتباين المخيف ما بين فريق والذي قبله ثم يليه، مثلما يتحدث عن ملايين الريالات التي صرفت على طوابير المستشارين فلم تجد واحدة منها مجالاً للتطبيق.

هنا الزبدة وهو يقول لي إن أحد كبار بيوت الخبرة يسأله قبل أيام عن دراسة تم إنجازها من قبل هذا "البيت" وماذا عملتم فيها وأين ذهبت؟

قصة هؤلاء المستشارين وبيوت الخبرة هذه تصلح بامتياز للتحوير اللذيذ كي تحاكي هذه النكتة: لدى أحد أصدقائي الخلص شقيق بإعاقة ذهنية دائمة. وكي يشغل له وقت الأيام ويدخله في دورة الحياة الطبيعية في مدينة جدة قرر تسجيله في معهد متخصص يقوم بتدريب هؤلاء المعاقين على مهن حرفية مختلفة.

يقول لي: عاد أخي مسعود ذات يوم من المعهد بسؤاله الضخم: (يا يحيى وينهم يذهبون بهذه الدواليب والأسرة والطاولات التي نصنعها كل يوم ولنا عدة سنين في هذه الشغلة؟). يقول لي صديقي: استغرقت في نوبة ضحك من هذا السؤال ثم أجبت فوراً: يأخذونها مباشرة للمحرقة يا مسعود، فلا تظن أن فنادق الهيلتون والماريوت تتزاحم في مزاد علني على ما تصنعه مع زملائك في هذا المعهد.

وبالضبط فآراء المستشارين وبيوت الخبرة ستذهب للمحرقة تماماً كما كان مصير دواليب وطاولات مسعود، الفارق أن دواليب مسعود لا تكلفنا سوى كراتين المسامير وبضعة أطنان من ألواح الخشب. أما كارتيل المستشارين وبيوت الخبرة فقد استغرقت من مالنا العام مئات الملايين، وأنا حتى أكتب الرقم بتحفظ. الفارق حتى أن "مسعود" وزملاءه بهذا المعهد قد يكونون إحدى ضحايا استشارات هؤلاء "الشقر" فحياة مسعود، وكما أعرف، وإعاقته الذهنية شافاه الله لم تتحرك للأمام خطوة واحدة منذ أول "شاكوش" استلمه في المعهد حتى آخر طاولاته التي ذهبت صباح الأمس للمحرقة، والخلاصة قبل انتهاء المساحة: أستاذ جامعي يكتب في سيرته الذاتية ثماني عشرة استشارة مختلفة لم أقرأ فيها كلها رابطا واحدا بين منصب استشارة مع الآخر. كلها مثل دواليب مسعود. لا توجد لدينا كذبة أكبر من حكاية المستشار ومركز الدراسات وبيت الخبرة، وأنا أحمد الله أن أحدا لم يستشرني في شيء لا من فوق أو تحت طاولة حتى لو كانت من طاولات مسعود.