في التاريخ القريب والبعيد أمثلة كثيرة على أن الضعف كان مصدر القوة على مستوى الدول والمؤسسات والأفراد.. ومن ذلك الضعف كان النجاح والتألق.. على مستوى الدول حتى ما كان منها عظمى كان التفرد بنجاحات محددة مصدرها الضعف.. خذ مثلاً تخلف الولايات المتحدة الأميركية في برنامج الفضاء ووصول الاتحاد السوفيتي في الستينيات إلى القمر قبل الولايات المتحدة الأميركية.. عندها كان ذلك التخلف أكبر مصدر للولايات المتحدة في إيجاد برنامج أهلها للنزول على سطح القمر عام 1969 قبل الاتحاد السوفيتي وتفوقها بشكل كبير جداً في برنامج الفضاء.. وسمى مالكوم جلادول هذه النظرية في كتابه المعنون: داود وجالوت الذي صدر عام 2013: "ميزة الضعف وعيب القوة" The Advantage of Weakness, and the Weakness of Strength، وفي هذه النظرية تبدو عيوب القوة التي يمكن أن تؤدي إلى الخمول والاستكانة والدعة، وكما قال "تؤدي القوة إلى فقدان الرؤية والحركة".

 فيما الضعفاء يعملون على التخلص من ضعفهم ويصلون إلى مراتب عالية من القوة تفوق القوى المتواجدة حولهم.. الضعف قوي جداً لأنه مصدر الإلهام، ولأنه مصدر العمل الجاد، ولأنه مصدر الرؤى البعيدة.. ضرب جلادول في كتابه أمثلة كثيرة منها واحد من أكبر المحامين وآخر من أكبر مديري الشركات كانوا يعانون ضعفاً كبيراً بسبب إصابتهم بمرض الـ Dyslexia. نحن دائماً نقلل من قيمة الضعف ونضخم قيمة القوة .. هناك حقيقة تقول إن الضعف هو نتيجة القوة التي نشعر بها، ولهذا تكون القوة هنا عيبا وليست ميزة.. وقد تكون القوة نتيجة الضعف الذي نشعر به.. بمعنى آخر هناك ميزات للنقائص، وهناك نقائص للميزات..

 وفي كتاب جلادول أورد أيضاً قصة دواد عليه السلام الذي كان جندياً ضعيفاً في جيش الملك طالوت، تلك القصة التي وردت في القرآن الكريم، وعندما التقى الجيشان كان جالوت متمترساً بالدروع في جميع أنحاء جسمه ما عدا وجهه، وقد يكون ذلك التمترس قد أشعر جالوت بالقوة والإقدام فكانت أكبر مصدر لمقتله على يد داود عليه السلام بمقلاعٍ يحمل حجراً.. فكانت قوة جالوت مصدراً لمقتله وهزيمة جيشه (بإذن الله) كما ورد في القرآن الكريم..

مصدر القوة التي يسببها الضعف هو المثابرة والإصرار، ونحن كمسلمين نقول والاستعانة بالله سبحانه وتعالى.. الشخصية الضعيفة التي تمتلك الإصرار والمثابرة ورفض الضعف الذي يحصل لها والنكسات التي يسببها ذلك الضعف يجعل عالم تلك الشخصية أفضل، وهذا ما يجب أن يتربى عليه النشء في بداية حياتهم.. كثيرون في الحياة ينشؤون في بيوت ثراء، وذلك الثراء يجعل من هؤلاء يشعرون بالقوة فلا يكملون تعليمهم، فيذهب ذلك الثراء وتتحول قوتهم إلى ضعف، حيث ينتهي بعض هؤلاء إلى العيش على الصدقات والهبات.. ولولا الحفاظ على الكرامات لأوردت أمثلة من مجتمعنا كانت لهم صولات وجولات على المستوى العالمي والمحلي، وانتهوا إلى ضعف مدقع يتم التصدق عليهم.. وبالمقابل هناك أمثلة كثيرة من الناس كانت ضعيفة، وكان ذلك الضعف هو المصدر الأساسي بعد توفيق الله الذي أوصلهم إلى قمم المجد من أوسع أبوابه..

 حدثني أحد الأصدقاء عن تجربة شخصية له يقول فيها إنه كان مع مجموعة من الأصدقاء لمدة طويلة كان هو أقلهم تأهيلاً ومنصباً وظيفياً وأقلهم ثروة، وكانوا عندما يتحدثون عن عملهم وإنجازاتهم وفي كل مرة يجتمعون لا يشارك في الحديث، ولم ينبس ببنت شفة في معظم اجتماعاتهم.. كان يشعر بالدونية والضعف بينهم.. لكن ذلك الضعف كان بالنسبة له مصدر قوة.. واصل كفاحه منطلقاً من ذلك الضعف حتى تفوق عليهم من جميع النواحي.. هذه قصة حقيقية.. هناك من يسأل بعد أن يقرأ هذا الطرح: لماذا يوجد بيننا ضعفاء على مستوى الدول والمؤسسات والأفراد؟ هذا سؤال مهم وكبير.. والإجابة عليه سهلة جداً.. فهذا الضعف في هذا النوع من الدول والمؤسسات والأفراد هو مثل الذي لديه سلاح لا يستخدمه للدفاع عن نفسه أو لسد جوعه.. ماذا ستكون النتيجة؟ الهزيمة أو الموت جوعاً.. هذا تماما ينطبق على من يملك ضعفاً ولم يستمد قوته من ذلك الضعف.. سيبقى ضعيفاً.. الضعف يحتاج إلى إصرار ومثابرة لا بد أن تتوفرا في الضعف كي يكون مصدر قوة ويكون ميزة لا نقيصة.. بعبارة أخرى الضعف قوة ولا بد أن نعرف ذلك كحقيقة.. البعض يتعامل مع الضعف كنقيصة ويلجأ إلى الآخرين للمساعدة على التخلص من الضعف.. هذا عيب آخر يسبب استمرار الضعف.. الضعف قوة داخلية للفرد تحتاج منه فقط إلى إصرار ومثابرة كي يحققا له القوة التي يريدها..

 وخلاصة القول أن للضعف قوة تحتاج فقط إلى إثارتها بالإصرار والمثابرة.. الإصرار والمثابرة يظهران قوة الضعف بشكل يجعل لتلك القوة أثراً كبيراً في تقدم الأمم والشعوب والمجتمعات والأفراد.. وقد ضربت بعض الأمثال هنا في هذا المقال، ومن يرد الاستزادة من الأمثلة والشواهد فعليه أن يقرأ كتاب داود وجالوت لمؤلفه ملكوم جلادول.