استقبل المثقفون والمعنيون بتراثنا العربي والإسلامي المخطوط في داخل المملكة وخارجها نبأ صدور قرار مجلس الوزراء القاضي بإنشاء مجمع الملك عبدالعزيز للمكتبات الوقفية بالمدينة المنورة بابتهاج كبير؛ ذلك لأن المدينة المنورة كانت من أكثر حواضر الجزيرة العربية التي تزخر بالمكتبات الغنية ومخطوطاتها النادرة، وكانت أكثر تلك المكتبات شهرة وأغناها بمخطوطاتها القيمة مكتبة الشيخ عارف حكمت التي كانت حتى عهد ليس بالبعيد مستقلة في مبنى جميل ومقبَّب بالقرب من المسجد النبوي الشريف، وكانت هذه المكتبة في ما مضى مقصداً للباحثين وطلاب العلم، ولا أظن أحدا من أبناء جيلي الذين سجلوا رسائل الماجستير والدكتوراه في الجامعات السعودية أو الجامعات الخارجية إلا عرف هذه المكتبة، ونهل من موردها العذب، واستفاد من كنوزها النادرة جداً من المخطوطات.

يليها في الأهمية مكتبة أخرى تعرف باسم المكتبة المحمودية نسبة إلى السلطان العثماني محمود الثاني الذي جددها في عام 1237هـ، وألحقها بالمدرسة التي بُنيت في عهد سلطان المملوكي قايتباي، وقد جُمعت مكتبات المدينة التاريخية كلها في مبنى واحدٍ افتتحه الملك فهد رحمه الله في عام 1403، وموقعه معروف إلى الغرب من المسجد النبوي الشريف، ويحمل اسم مكتبة الملك عبدالعزيز مع احتفاظ كل مكتبة يضمها المبنى باسمها التاريخي، واسم صاحبها الذي تنسب إليه. ويُقدَّر عدد المكتبات التي يضمها مبنى مكتبة الملك عبدالعزيز بأكثر من 30 مكتبة، بها ما يزيد على 20 ألف مخطوطة، وفيها من النوادر الخطية مجموعات غير قليلة، وبعض مخطوطاتها يقع في مجلدات ضخمة كل مجلد عبارة عن مجموع يضم عدداً من المخطوطات المستقلة بعناوينها مما يرفع عدد مخطوطاتها إلى رقم أكبر بكثير من رقم 20 ألف مخطوطة المذكور أعلاه.

عانت المكتبة في سنواتها الأخيرة من سوء الإدارة، والافتقار إلى أبسط وسائل السلامة الواجب توافرها في المكتبات العامة، ظهر ذلك جليًّا للعيان في أثناء زيارة وفد الجمعية السعودية للمحافظة على التراث برئاسة سمو الأميرة عادلة بنت عبدالله بن عبدالعزيز الذي زار المدينة قبل أربع سنوات، وكنت شخصيًّا ضمن أعضاء الوفد، فرأينا المخطوطات في وضع لا يسر، وكانت أسلاك الكهرباء المكشوفة متناثرة في جوانب من أرضيات المبنى، وفي حالة قابلة للالتماس، والتسبب في إشعال حرائق لا تبقي ولا تذر لولا أن الله سلم، كذلك رأينا أشعة الشمس تنفذ من خلال النوافذ الزجاجية لتصل إلى بعض النسخ الخطية المعروضة في بهو المبنى، وإلى بعض السجاد النادر الذين يزيِّن جدران المعرض حتى لقد أثرت أشعة الشمس في تغيّر ألوان بعضها.

وحينما كان مقرراً إزالة المبنى لدواعي التوسعة الجديدة في المسجد النبوي الشريف خُشي أن يُعهد بنقل المخطوطات إلى شركات غير متخصصة، وفيها عمال لا يعرفون قيمتها فيلحق بنوادرها بعض الضرر؛ لذلك قدَّمتُ مداخلة مكتوبة في الشأن العام بمجلس الشورى، وفيها حمَّلتُ لجنة الشؤون الإسلامية والقضائية بالمجلس أمانة التواصل بهذا الخصوص مع وزارة الشؤون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد بوصفها الجهة المسؤولة عن المكتبة- حينذاك-، وطالبت في مداخلتي إشراك جهات اختصاص في عملية النقل من الأقسام المتخصصة في الجامعات السعودية، ومن مكتبة الملك فهد الوطنية، ومكتبة الملك عبدالعزيز بالحرس الوطني، ومكتبة مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية.

وكان الخوف - حينذاك- على المكتبة ومحتوياتها النادرة هاجساً يؤرق كثيراً من المثقفين من أبناء المدينة ومن خارجها. إلا أن ذلك الخوف سرعان ما تبدّد حينما علمنا أن سمو الأمير فيصل بن سلمان بن عبدالعزيز أمير منطقة المدينة يولي المكتبة جل اهتمامه، وأنه يسعى مشكوراً إلى أن تكون المكتبة ضمن مركز ثقافي كبير في المدينة المنورة، وقد كُلّلت جهود سموه التي ليست بغريبة عليه بموافقة مجلس الوزراء على إنشاء هذا المجمع الذي جاء فوق تصورنا، فهو يتمتع بالشخصية الاعتبارية والاستقلال المالي والإداري، ويرتبط برئيس مجلس الوزراء، ويكون له مجلس أمناء يرأسه سمو أمير المنطقة، وهذا من شأنه إعطاء أهمية عالية لهذا المجلس والإدارة التنفيذية التي ترتبط به، إلى جانب المرونة الإدارية والمالية التي ستمكنه من النهوض برسالة المجمع، وتحقيق أهدافه التي حددها قرار مجلس الوزراء الموقر، ومنها إجراء الأبحاث والدراسات، وتشجيع البحث العلمي في مجال اختصاصاته، وكذا العناية بالمقتنيات النادرة التي لدى المجمع، والمحافظة عليها، وعرضها متحفيًّا وفق أعلى المستويات والمعايير الدولية، والإسهام في التعريف بالتراث الحضاري العربي والإسلامي المخطوط.

وهكذا يتضح أن موافقة مجلس الوزراء تضمنت خريطة طريق، وخطة عمل طموحة لمستقبل هذا المجمع الذي لن يقتصر على تقديم الخدمات المكتبية وحسب، وإنما يتعداها ليكون مركز بحث شامل يضطلع بكل مهام المراكز البحثية التي آمل أن يكون من بينها دراسة المخطوطات وتحقيقها ونشرها، وأن يتولى ذلك فريق علمي متخصص ومتفرغ؛ لأن دراسة المخطوطات وتحقيقها في بلادنا تراوح مكانها الآن منذ المحاولات الأولى التي اضطلعت بها جامعة أم القرى، واستكملها معالي الشيخ الدكتور عبدالملك بن دهيش رحمه الله. كذلك آمل أن يشتمل العرض المتحفي بالمجمع على موجودات الحجرة النبوية الشريفة التي قيل إنها تحت نظر هيئة كبار العلماء. وإذا كان لي من كلمة أختم بها مقالي هذا فهي دعواتي الصادقة المخلصة بجزيل الأجر والثواب من الله سبحانه وتعالى لراعي الثقافة الأول في بلادنا خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز لحكمته وسداد رأيه ولقراره التاريخي هذا باحتضانه هذا الإرث الإنساني العظيم الذي يبشر بمستقبل زاهر لصرح حضاري ثقافي في مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم يُنسب إلى عهده المبارك والميمون بحول الله وقوته.