كتبت الأسبوع الماضي عن موجة إرهاب بلا حدود ستجتاح المنطقة، وتمنيت أن أكون مخطئا، لكنّني لم أكن أتوقع أن يتجاوز الإرهاب كل الحدود، ويصل إلى الحرم النبوي الشريف والمدينة المنورة، وبعيدا عن جرائم الإرهاب والإدانة والاستنكار، وبعيدا عن مئات آلاف القتلى والجرحى وملايين المهجّرين والنازحين في كل من سورية والعراق واليمن وليبيا، وبعيدا عن التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة الأميركية لمحاربة الإرهاب، وعشرات الآلاف من الطلعات الجوية، وبعيدا عن التدخل الروسي في سورية. بعيدا عن كل ذلك، فلقد آن الأوان أن نطرح على أنفسنا السؤال الذي تجاهلناه منذ بداية الفوضى والنزاعات التي تعم منطقتنا، وهو ماذا تفعل النخب العربية غير الكتابة والكلام والتحليل والاتهام عبر الصحف والشاشات؟ وهنا لا أستثني نفسي من ذلك السؤال.
قبل أسبوعين، شهدت بريطانيا استفتاء تاريخيا حول البقاء في الاتحاد الأوروبي، وكانت النتيجة كارثية على بريطانيا وعلى التجربة الأوروبية الحديثة، إذ قادت جماعة من المتشددين أكثرية البسطاء البريطانيين إلى التصويت برفض الوحدة الأوروبية، لأسباب عنصرية غوغائية كانت نتائجها مدمرة اقتصاديا واجتماعيا وسياسيا. وعندها استفاقت النخبة الإنجليزية من غيبوبتها، وأدركت أنها أهملت البسطاء والعامة، واعتبرت نفسها فوق هؤلاء، وأن ثقافتها ومعرفتها كافية كي يطمئن الآخرون على وجودهم ومستقبلهم، وسارعوا إلى توقيع عريضة تجاوزت ثلاثة ملايين توقيع لإعادة الاستفتاء.
قبل عقود، وفي الأيام الأولى لقيام الدولة الوطنية العربية، كان الحديث يدور عن تقصير الحكومات تجاه النخب العربية، أما اليوم فالأمر معاكس تماما، إذ يتوجب علينا الحديث عن تقصير النخب تجاه حكوماتهم ودولهم، لأن ما تقوم به الحكومات العربية العاملة على الاستقرار الوطني والعربي، خصوصا في دول الخليج العربي ومصر والمغرب، يشبه إلى حد بعيد حكومات النهضة الأميركية والأوروبية واليابانية التي عملت على معالجة أسباب الحروب العاصفة التي اجتاحت دولهم، وعملت على وضع إستراتيجيات علمية ودقيقة تلبي احتياجات الأجيال القادمة، وتخلصت من البرامج الآنية إلى الرؤى المستقبلية.
لا بد من إطلاق نقاش صريح ودقيق بين النخب العربية حول دورها في مؤازرة الحكومات العاملة على بناء الاستقرار. وأعتقد أن النخب المشرقية هي خير من يدير هذا الحوار، لأن المشرقيين العرب قد خسروا كل شيء وربما يكونون قد تعلموا من خرابهم ودمارهم وموتهم.
فلبنان البلد الصغير، دُمر تماما وتراجع عشرات السنوات إلى الوراء، وخسر من شبابه مئتي ألف قتيل. أما سورية فالمشهد لا يزال ماثلا ليل نهار على شاشات التلفزة، وكذلك العراق، والحديث يطول عن فلسطين. المشرق العربي يعيش مأساة ستترك آثارها على الدولة والمجتمع عشرات السنوات، هذا إذا توقفت الآن، وقد تكون دروسا مفيدة للدول والمجتمعات العربية التي لا تزال تنعم بشيء من الاستقرار.
تابعنا بكثير من المرارة الترف النخبوي في الاعتراض على أكبر عملية تكاملية عربية، والتي تمثلت في مبادرة الملك سلمان بن عبدالعزيز، والرئيس عبدالفتاح السيسي، في بناء جسر التكامل العربي بين مصر والسعودية، وإعادة الجزيرتين إلى السيادة السعودية مع عشرات المشاريع الإنمائية في صحراء سيناء، إذ يهدد الإرهاب دول البحر الأحمر قاطبة. تناست النخب أهمية التنمية في صناعة الاستقرار لتنشغل في أوهام ذاتية أو ورقية، في حين أن البسطاء ينتظرون أبسط أسباب الحياة الكريمة قبل أن يتحوّلوا إلى قنابل بشرية.
أعرف أن النخب العربية في الدول المستقرة الآن لا يرحبون بالاستماع إلى رأي النخب في الدول العربية المأزومة، وهذا ما كان عليه اللبنانيون والعراقيون والسوريون في خمسينات وستينات القرن الماضي، لأنهم كانوا يشعرون بتفوقهم على الآخرين، وهذا ما يشعره المصريون دائما بما هم الدولة الأكبر والأعمق. وبمعنى أوضح، أن ترف هذه النخب أسس إلى ما نشاهده من مظاهر العنف والفوضى التي أتت على كل شيء تقريبا، ولم يعد هناك من أمل في استعادة استقرار الدولة الوطنية وثبات الهوية العربية إلا من خلال نجاح الدول العربية القاطرة للاستقرار، وهي دول الخليج ومصر والأردن والمغرب وهي مسؤولية مشتركة بين الحكومات والنخب القادرة على تفعيل تواصلها مع مجتمعاتها، وإدراك تحديات اللحظة التاريخية التي تعيشها دولنا ومجتمعاتنا، من نزاعات وتدخلات إقليمية ودولية وإرهاب بلا حدود، لا بل تجاوز كل الحدود عندما وصل إلى الحرم النبوي الشريف.