أكتب هذا الأسبوع من لندن، حيث ما زال خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي الموضوع الأول، في وسائل الإعلام وأحاديث الناس. ففي الاستفتاء الذي جرى في 23 يونيو صوت البريطانيون بأغلبية 52 بالمئة للخروج من الاتحاد الأوروبي بعد عضوية استمرت 43 عاما.

ودبت الفوضى في القيادات البريطانية المؤيدة للخروج والمعارضة له، فمن ناحية أعلن الرئيس ديفيد كاميرون، ولن تصبح نتيجة الاستفتاء ملزمة إلا بعد إقرار البرلمان البريطاني لها، وعلى المستوى الأوروبي لن يكون قرار الخروج نافذا إلا بعد إجراءات طويلة ومفاوضات معقدة قد تستمر بين عامين إلى سبعة أعوام، ولم تتضح بعد معالم الاتفاق الذي يمكن أن يتم التوصل إليه، وهل ستظل بريطانيا عضوا في بعض مؤسسات ومشاريع الاتحاد الأوروبي، مثل السوق المشتركة والاتحاد الجمركي. ومع ذلك، فقد بدأ كثير من البريطانيين بالشعور بالقلق، لأن الخروج قد يؤدي إلى ضياع الكثير من الفرص للعمل والتعليم والتنقل والإقامة، وغير ذلك في دول الاتحاد، حيث يعاملون في الوقت الحاضر معاملة المواطنين.

وتعلو وتيرة القلق بين أولئك الذين صوتوا ضد خروج بلادهم من الاتحاد الأوروبي، ويشمل ذلك الغالبية من فئة الشباب، وغالبية سكان لندن وأسكتلندا وأيرلندا الشمالية. فهناك حركة قوية تطالب بإعادة الاستفتاء، حيث تجاوزت التوقيعات على هذا الطلب أربعة ملايين توقيع. ويرى بعض المحللين أن ذلك ممكن، لأن نتائج الاستفتاء لا تصبح ملزمة إلى أن يصدر بها قرار من البرلمان، ويرون أن رئيس الوزراء القادم قد يدعو إلى انتخابات مبكرة ومنها إلى استفتاء ثان قد ينقض الأول.

في حين يرى دعاة الخروج من الاتحاد، وهم الأغلبية، أن رئيس الوزراء القادم، الذي سيختاره حزب المحافظين الحاكم من بين مؤيدي الخروج، يجب أن ينفذ الإرادة الشعبية التي عبر عنها الاستفتاء ويبدأ مفاوضات الخروج بشكل منظم.

وكذلك يرى قادة الاتحاد الأوروبي ضرورة التحرك السريع لإتمام عملية خروج بريطانيا من الاتحاد، لأن حالة عدم اليقين قد أضرت بالأسواق المالية وربما عاقت قدرة بعض دول الاتحاد على الخروج من الركود الاقتصادي الذي يعم دول الاتحاد منذ فترة. فلا شيء تكرهه الأسواق أكثر من عدم الاستقرار، فهي تستطيع التأقلم مع بقاء بريطانيا أو خروجها من الاتحاد، ولكنها لا تستطيع التعامل مع التردد الذي يدفع المستثمرين إلى الهروب إلى مناطق أكثر استقرارا.

فلنفترض، وهو الأرجح، أن قرار خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي لا رجعة فيه، فماذا سيعني ذلك لمنطقة الخليج؟

من المؤكد أن العمل من خلال منظومة كبيرة مثل الاتحاد الأوروبي يعني الكثير من التنازلات للوصول إلى سياسات موحدة تجاه العالم الخارجي، كما يعني البطء في اتخاذ القرار، فمنذ انضمام بريطانيا للاتحاد الأوروبي في عام 1973، ضعفت علاقاتها بحلفائها وشركائها السابقين في منظومة دول الكومنولث (مثل كندا وأستراليا ونيوزيلندا والهند وباكستان)، وكذلك في منطقة الخليج التي تخلت عنها بريطانيا في عام 1971.

ومنذ تولي المحافظين سدة الحكم في عام 2010 لم يعد المسؤولون البريطانيون يخفون ضيقهم، بل إحباطهم من سياسات الاتحاد الأوروبي تجاه مجلس التعاون، التي لا تقدر حق التقدير علاقات بريطانيا التاريخية بالمنطقة. ولذلك فإن خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي سيحررها من ضرورات العمل الأوروبي الجماعي، وستكون له تداعيات مهمة اقتصادية وأخرى سياسية وأمنية. فسيكون بإمكان بريطانيا تنفيذ "مبادرة الخليج" التي تبنتها عام 2010، وإستراتيجية الخليج الجديدة التي تبنتها في نوفمبر 2015، وهما يهدفان إلى إحياء دور أكثر فاعلية لبريطانيا في المنطقة، اقتصاديا وسياسيا وأمنيا.

فمن الناحية الاقتصادية، إذا خرجت بريطانيا من السوق الأوروبية المشتركة فإنها ستبحث عن شراكات أخرى، مثل منظومة مجلس التعاون التي دخلت في شراكة إستراتيجية مع بريطانيا منذ سنوات، ولكن تلك الشراكة ظلت موقوفة التنفيذ اقتصاديا بسبب عضوية بريطانيا في الاتحاد الأوروبي. ويمكن أن تأخذ الشراكة الاقتصادية بين بريطانيا ودول المجلس أشكالا مختلفة، في التبادل التجاري للسلع والخدمات، وفي الاستثمار. وفي المقابل، قد يضعف الاهتمام الأوروبي بالتكامل الاقتصادي مع دول المجلس، سواء من خلال اتفاقية التجارة الحرة أو غير ذلك من أدوات التكامل التي توصل إليها الجانبان منذ قيام المجلس.

ومن الناحية السياسية، فليس خفيا أن التنسيق محدود بين الاتحاد الأوروبي ومنظومة مجلس التعاون في الجانب السياسي، بخلاف التعاون الاقتصادي. ولذلك فإن خروج بريطانيا سيضعف أكثر دور الاتحاد الأوروبي السياسي في المنطقة، حيث كانت بريطانيا وفرنسا على وجه التحديد -وإلى حد ما إسبانيا وإيطاليا- القوى الدافعة وراء الدور السياسي -المحدود حقيقة- للاتحاد الأوروبي في المنطقة. ولذلك فإن الاتحاد الأوروبي قد ينكفئ بعيدا عن قضايا المنطقة، ويصبح دوره أكثر هامشية. وقد يتبنى سياسات تتعارض مع سياسات مجلس التعاون تجاه قضايا المنطقة.

وفي المقابل ستكون لدى بريطانيا حرية أكبر في الحركة والتنسيق مع منظومة مجلس التعاون لحل قضايا المنطقة، مثل سورية والعراق واليمن ولبنان. والتصدي لأنشطة إيران المزعزعة للاستقرار.

ومن الناحية الأمنية، سيتيح خروج بريطانيا فرصا أكبر للتعاون مع مجلس التعاون في مكافحة الإرهاب، سواء منه ما يتعلق بتنظيمي داعش والقاعدة، أو بحزب الله والتنظيمات الأخرى التابعة لإيران.

وكل هذه الإمكانات تحتاج إلى تحرك عملي من جانب بريطانيا ومجلس التعاون لتفعيل شراكتهما الإستراتيجية التي تم الإعلان عنها منذ فترة ووضع عدد من الاتفاقات لتنفيذها.