دلال المالكي



إن ارتباط الدين بأي جانب من الجوانب الإنسانية، سواء السياسية أو الاجتماعية أو الاقتصادية، يشوه صورته ويضيع جوهره، ويقلل من قيمته في حين أنه يزيد الجانب البشري المرتبط به قوة وانتشارا وإقناعا، لا سيما في المجتمعات التي تتأجج فيها العواطف الدينية، وَمِمَّا لا يمكن إنكاره أو تجنبه ذيوع مصطلح تجارة الدين، فهو موجود ومستخدم بصورة أو أخرى، وتاجره لا يحتاج أكثر مما يحتاجه أي متخصص محنك في عالم التجارة؛ حيث يعمد التاجر صاحب الموهبة التسويقية إلى إبراز جودة بضاعته والتقليل من شأن غيرها، وذلك بما أوتي من حلاوة اللسان، وإيحاءات أوصافه المؤثرة في المتلقي بحسب احتياجه، والتي بات ذلك التاجر بحكم ممارساته يتفرسها في زبائنه، مما يجعل المقبل على شراء سلعة معينة والجاهل بها يظن أن التاجر هو الأعلم بمواصفاتها والأقدر على توضيح إيجابياتها وسلبياتها، وقد تدفعه سذاجته للتصديق بكل ما يلقي به ذلك التاجر على سمعه، والحقيقة أن هذا بالتحديد ما يحدث مع من يمكن أن نسميهم تجار وتاجرات الدين؛ إذ يقبل طالب الفتوى أو صاحب السؤال والجاهل بمصادر العلم المعتمدة على أحد هؤلاء ليطلب الإجابة فيجد إجابة واحدة قد تكون أضعف الآراء الفقهية، ولكنها من جانب الفائدة العائدة على السائل والمسؤول هي الأقرب فيأخذ بها ويعمم حكمها فيما تلا ذلك من مواقف، مستغنيا بها عن السؤال فيما يستجد من أموره.

وهناك وسيلتان أسهمتا في رواج سوق تجار وتاجرات الدين "الدعاة والداعيات" بشكل لافت، وهي:

1 - انتشار وسائل التواصل الاجتماعي وانفتاح المجتمع بجميع طبقاته وفئاته عليها.

2 - دور التحفيظ النسائية، وانضواء عدد مما يسمين أنفسهن داعيات تحت ستارها، مروجات لمصالحهن الذاتية، أو باعتبارهن وسائط لجماعات دينية مشبوهة.

 ففيما يخص الوسيلة الأولى، انتشرت العديد من المقاطع الصوتية بأسماء داعيات بعضهن معروف والبعض الآخر مجهول - ولا أعلم من أين جاء حكم إباحة أصواتهن للدعوة والفتوى في حين يقطع موصل الصوت حين تلقي إحدى الشواعر قصيدة وطنية في ملتقى ثقافي وطني- كما انتشرت مقاطع مقلدة لأصوات بعض العلماء المعتمدين في الفتوى، لكنها حين تقع على قلب العاقل ويبادر للبحث عن مصدرها يتكشف له زيفها، هذا فيما يخص نشر الفتاوى والإجابة على التساؤلات الدينية الشخصية، وهذه أو تلك كلها يمكن أن تترك بصمتها على من لا يبحث أو يتأكد من صدق المعلومة.

في المقابل هناك الدعاة التويتريون الذين انشغلوا بجمع المتابعين - السهم الرابح - والعيش في أبراج بعيدة عن مجتمعاتهم وما يتناوشها من شرور برغم قدرتهم التأثيرية في متابعيهم من الشباب الذين تَرَكُوا لغيرهم ممن استقطبهم بحلاوة اللسان والدعوة لحياة الحور والنور في الجنان.

هذه الصورة لا يقل سوءا عنها ما شاع وانتشر في دور التحفيظ من تبني تلك الدور لداعيات من جنسيات مختلفة هن في الحقيقة يروجن لأفكار لا تنتمي لمجتمعنا بقدر ما تحمله من خرافات وخزعبلات قدمن بها وذاعت في بيئة الأمهات مرتادات تلك الدور بحثا عن العلم لكنهن للأسف لم يزددن إلا جهلا، مثل هؤلاء الداعيات جعلت من الدعوة طريقها للحصول على الزوج من بوابة الأم الباحثة عن الزوجة الخيرة في زمن انتشر فيه الفساد، وبعضهن جعلت منها طريقا للانتقام من فشلها في الدراسة والعمل، فراحت تصب الخوف في قلوب الأمهات صبا من مغبة التحاق الفتيات الصغيرات بالجامعات وما سيجره ذلك العلم عليهن من الانفتاح المؤدي إلى الكفر والإلحاد، وليس ثمة سبب أقوى لانتشار هذه الظاهرة مما ذكره قبلا ابن رشد: فـ"التجارة بالأديان هي التجارة الرائجة في المجتمعات التي ينتشر فيها الجهل"، ففي هذه المجتمعات يمكن الضرب على وتيرة العاطفة الدينية للتأثير في الجماهير المتعطشة لإشباع الفراغ العلمي بما يمكن أن تسميه اكتفاء روحيا.

إن طرق الفتوى المعتمدة معلومة ولها جهاتها ومختصوها، ومالك يرد فيه نص فالعقل والقلب السليم نجاة المرء بهما يمكن أن يصل إلى شاطئ الخير، والعاقل يدرك أن التجارة مع الله هي تلك التي تكون بينه وبين الله في نفسه وماله ولسانه وقلبه خاصة، أما تلك التي تعمم أحكامها وتقيم المجتمعات والأفراد بحسب أهوائها وانتماءاتها فتلك تجارة دنيا وهوى، ودرهم سلامة منها خير من قنطار مغنم.