الجوع الحقيقي الذي أشعر بأن الجميع متهمون به، هو الجوع إلى الوعي الذي يمكن لهُ أن يحملك برفق من مكان إلى آخر. النفس البشرية قادرة على أن تبدع وتزدحم بلذائذ وأطايب السعادة، وربما يمكنها أن تقوم بذلك حتى لو لم تكن تمتلك ذلك الوعي الباذخ. يمكن أن تكون حياة هؤلاء على ما يرام، ولكن حينما يكون المجتمع ومن حوله يعيش قريباً من النار، وفي أزمة شبه حالكة من الدراما السياسية والاجتماعية العالمية، هنا يمكن أن يجد البعض صعوبة في كيفية محافظته على كم الوعي والارتباط بواقع المجتمع، وكيفية التعاطي الآمن مع المشاكل التي يمكن أن لا يتعرض لها فقط كفرد، وإنما يتعرض لها الآخرون كجماعات، وهم يندفعون وسط الاضطراب اليومي بقنوط جاف وحساس، يدفعهم لأن يكونوا مشاركين في هذا الاضطراب بأي شكل أو صورة، وسط احتفالات مزدحمة بعدد من التفاصيل لواقع لم يكن يخيل لأحدهم أنه يمكن أن يكون بمثل هذا الألم الساخر.

كنت أحاول أن أفكر لمجرد الخيال، إذ يطيب للكاتب أن يشطح بعيداً عن واقعه، حينما يكون المجتمع وما يحدث به هو أول اهتماماته القدرية.

قبل 30 عاماً أو ما يزيد كيف كان البدوي يستقبل ضيفه من المذهب الآخر، وعلى الأخص حينما يكون الضيف والبدوي من نفس الوطن والمنطقة، ونفس الحياة ونفس المعاناة وإشكالياتها رغم اختلاف رؤية كل واحد منهما عن الآخر، في كيفية تعاطيه مع المشاكل العادية؟، إذ إن هناك مشاكل حياتية بغيضة لا يمكن أن تعالج، فيحملها البعض بعدم قدرته الشخصية على استيعاب كيفية التمازج أو قبول الأحداث، فيما يلقيها البعض الآخر على الحكومة التي لا يعرف حينها ماذا تعنى الحكومة؟ هل هو مجلس الوزراء مثلاً؟ أو يمكن أن تكون الحكومة هي أي مركز شرطة أو العاملين في الخدمة الأمنية، لا يضحك القارئ على الخيارات التي وضعتها، كثر من لا يعرفون من تكون الحكومة فعلياً؟ وربما يعود ذلك إلى عدم تسرب الثقافة السياسية، أو عدم تعاظم رغبة الشارع السعودي في فهم تفاصيل السياسة بشكل عام، مؤمناً جداً بأن مثل هذه الأمور تقع على عاتق الحكومة لا عليه، ولكن حتى الآن لم أكتب عن ردة فعل التقاء الرجل البدوي برجل من مذهب آخر قبل 30 عاماً. للأسف أريد أن أقول لك بأنها ذات ردة الفعل التي ستحدث اليوم وربما هذه اللحظة، لم يتغير السلوك رغم كم الانفتاح التقني الذي نعيشه الآن، ورغم تطور وجودة العلاجات الطبية التي يفترض أنها تقضي على أمراض قاتلة، ورغم تذبذب أسعار النفط العالمية، فلا يزال الاقتصاد في السعودية تحديداً يلقى انتعاشاً كبيراً، وبعد عدد كبير من الندوات التي ظلت تتحدث عن حقوق المرأة منذ 60 عاماً، وصل بها الحال أنها الآن يمكن لها أن تقوم على ملاحقة حقوقها في محاكم العدل، من دون خوف من عصا المجتمع القبلي أو الحضري الذي تعيش به.

ولكن الشيء الذي أدرك تماماً أنه تغير اليوم سواءً أكان ذلك نفسياً أو فكرياً، ولا زلت أواجه العديد من الخصومة تجاهه، حينما كنت في الصف الأول المتوسط وكنت أدافع عن زميلتي في المدرسة من أي اتهام يوجه إليها لكونها شيعية، إذ لم تكن فاطمة زميلة صف مدرسي فقط، ولكنها أيضاً كانت تسكن في ذات الحي الذي أسكن فيه، ومن الطبيعي أن يكون هناك الكثيرون من الشيعة بيننا، لكوننا نعيش في المنطقة الشرقية، لا أعلم كم عدد المرات التي كان عليّ أن أتعامل مع أي شخص من طائفة أخرى على أننا أشقاء، وكم مرة تحملت إيذاء عدم فهم الآخرين لذلك، وكم مرة لم يستطع الطائفي الآخر أن يفهم حاجته لأن يكون "ابن بلد" حقيقيا من دون أن يصدر صوته واستغاثاته إلى دول أخرى، على اعتبار أحمق أنها مكمن الخلاص وبداية الامتداد المذهبي الطائفي الشيعي. الأدوار قبل سنوات مضت لم تتغير، ولكنها ازدادت ضغينة أكثر مما كنت أتوقعه أو حتى أتوقع أن يحدث مثل هذا الوضوح في التصدع والعري في عدم تقدير مكانة الدولة التي يعيش بها أبناء المذاهب المختلفة.

جوهر الموضوع الذي كنت أودّ الحديث عنه، أن الحياة بالفعل ساحرة، فأنا لا أستطيع حتى اليوم أن أحصي عدد المرات التي واجهت بها عددا كبيرا من المتعنصرين من المذهب الشيعي، الذين لا يصعب عليهم أن يتعاملوا معك وكأنك عدو لدود. في السابق كان يجري ذلك سراً وخيفة من الملاحقة والمطاردة، ولكن الآن يمكنك أن تكون في أي مكان في وطنك، في عملك في أي من مدارس "سيهات" أو "عنك" أو "القديح" على سبيل المثال، أو حتى على برامج التواصل الاجتماعي، ويمكن لأحدهم أن يتبجح عليك شاتماً ولاعناً، ويبدو أن إيران قد استطاعت أن تغرز في بعض أبناء وبنات الوطن من المذهب الشيعي، مفاهيم أخشى أن ندفع نحن فاتورتها لاحقاً، حينما نظل في صمت مدقع من دون أن نقوم بمباغتة فكرهم مثلما نباغت الفكر الإرهابي الداعشي، وحينما لا تتم محاصرة ما يدور داخل عقولهم، وما يقومون به لزعزعة أمن مدنهم وقراهم وضواحيها بهذه الصورة المتبجحة، حتى وصل الحال إلى أن البعض منهم بدأ بمحاولة عرقلة نجاح الآخر، لأنه لربما جد الرجل السني اشتبه بعرقلته لأي شيعي في يوم من الأيام، من دون أن يقوم بذلك تحت جنح الليل ودون أن يراه أحد، بل بدت الكراهية علانية الآن، ولا زلت حتى الآن أتذكر كيف كنت في عمر المراهقة وأنا أتصدى لأي تصرف يمكن أن يجرح زميلتي فاطمة الشيعية، أما اليوم، فعلينا جميعاً أن نعيد فتح أوراقنا ونضع حدا صارخا لما يحدث من المواطنين العنصريين، ثمة أمور لا يمكن السكوت عنها، حتى لو جاءت من خلال تغريدة في حساب "تويتر" أو صورة في برنامج "إنستجرام".

لا يجب أن تقتصر مواجهتنا على الفكر الداعشي فقط، وإنما الفكر الذي يرغب أن يحول الوطن إلى طائفي، على اعتبار أن طائفته هي المسروقة دوماً!