الانقلاب الفاشل في تركيا شغل الناس أكثر مما شغلتهم الانقلابات الناجحة التي حصلت قبله لاعتبارات كثيرة، منها شخصية الرئيس رجب طيب إردوغان وما يمثله للأتراك وما يمثله للحالمين بالأوهام. أوروبا وصحفها اهتمت بالانقلاب لكن نبرتها كانت نبرة تحذير لنظام إردوغان أعلى من نبرتهم في شجب الانقلاب. وصف الشيخ القرضاوي، الانقلابيين بأنهم خونة متآمرون على الإسلام والمسلمين"، وقدم التهنئة لإردوغان لنصرته قضايا المسلمين و"إيوائه المستضعفين، وانتصاره للمظلومين". وكل يبكي على ليلاه!. العلاقة بين الجيش التركي وبين الحكم المدني متوترة دائما، فالجيش منذ أتاتورك يتمتع باستقلال كبير عن إرادة الحكومة، ويعتبر نفسه حامي علمانية النظام، وكان يمكنه دائما وببساطة أن ينفذ انقلاباته ويلغي الأحزاب ويحكم بنفسه أو من وراء ستار. لم يستطع الرؤساء الأتراك السابقون أن يحدّوا من سيطرة وتدخل الجيش في الحكم بحجة حماية النظام العلماني.
أسس إردوغان حزب العدالة والتنمية، وتلا ذلك فوزه بالانتخابات، وحقق لتركيا نجاحات اقتصادية، بعد سنين في الحكم وجد نفسه قادرا على الحديث عن مسألة يراها الجيش ضد العلمانية وتراها الحكومة من مظاهر العلمانية، وهي لبس الخِمَار، لكن هذا الحديث كاد يؤدي إلى حظر حزب العدالة والتنمية. هناك نقاط اختلاف كثيرة بين الجيش وبين الحكم المدني، وأنا اقتصرت هنا على "الحجاب / الخمار" لأنه صار يمثل رمزية للإسلام وللهوية ليس في تركيا وحدها وإنما في البلدان العربية والإسلامية!. كان التبرير الذي قدمه نواب حزب العدالة للسماح بالخمار تبريرا علمانيا وليس دينيا. وما كان حزب إردوغان قادرا على تمرير قرار كهذا لولا النهضة الاقتصادية التي لمسها الأتراك وضمنت الفوز لحزب إردوغان مرة ثانية وثالثة بأغلبية برلمانية تؤهله ليبحث أمورا لا يقبلها الجيش.
بعبارة أخرى لم يقف الشعب التركي بأحزابه ضد الانقلاب على إردوغان لأنه سمح بالحجاب، وإنما لأن الشعب يكره الحكم العسكري، ولمس تغييرا إيجابيا في حياته بفضل برنامج حزب إردوغان. كان إردوغان متسلحا بإنجازات اقتصادية لا بإنجازات من نوع "الحجاب"، فقد خسر أستاذه أربكان الحكم قبل سنوات حين لمّح إلى إمكان السماح جزئيا بلبس الخمار، لأنه لم يكن معه إنجازات تضمن له ولاء الشعب. انشغل السعوديون بالانقلاب الفاشل فبعضهم مع الانقلاب تشفيا في إردوغان الذي يدعم "الإخوان المسلمون"، وبعضهم ضد الانقلاب لأن إردوغان مشروع "خليفة وخلافة"، ويسعى إلى أسلمة الدولة التركية، وسمح بـ"الحجاب"! "الانقلاب لم ينتهِ بعد" كما يقول إردوغان، وأعتقد أن هذا صحيح سواء فيما يتعلق بوجود تململ واسع في القطاع العسكري التركي (ما زالت الاعتقالات مستمرة والطوارئ ستمتد ثلاثة أشهر)، أو في نية إردوغان إخضاع الجيش لمؤسسة الرئاسة ومشيئة الحكومة. إردوغان نجم سياسي نشط ومثير للإعجاب حقق مع حزبه نجاحات كبيرة لتركيا، والنجاحات تلفت انتباه الأقوياء في الداخل والخارج، لكن إردوغان نفسه قام باستعراضات خارجية (سفينة غزة، موقفه من النظام المصري، خصامه مع بيريز في دافوس.. موقفه من روسيا.. إلخ)، كل ذلك كان يؤثر سلبا على نجاحه الاقتصادي فبدأ يخسر تدريجيا، الاقتصاد يتراجع لتراجع السياحة، وجد نفسه وحيدا أمام روسيا، وأمام إسرائيل وأميركا، قام بتغيير الحكومة في محاولة لترميم ما قام هو بتكسيره.
إردوغان رئيس تركيا فقط، ويحمي نظامها العلماني نختلف أو نتفق على أدائه السياسي، لكن أن يكون حديثنا عنه هو استمرار للحديث عن عبدالفتاح السيسي ومحمد مرسي وحول أوهام الخليفة والخلافة وناصر "الحجاب" فهذا يعني شيئا واحدا فقط وهو: أن الفكرة الوطنية ليست راسخة في وجدان بعضنا ولا أولوية لها في عقولنا، وأن حديثنا لم يكن موضوعيا عن الانقلاب بل كان عن "الأمة" وعن "الحجاب".