ما زلت أذكر جيداً، أول مرة اتهمت فيها بالعلمانية، حدث هذا قبل سنوات طويلـة. وقـع تلك الكلمـة ـ التهمة ـ الخطيرة عليّ كان أشبه بتصفية اجتماعية غير أخلاقية يتعرض لها شاب في مقتبل العمر يقرأ كثيراً كل ما يتاح له من الكتب المهمة، ويُحاول بشيء من الجدية أحياناً، وبالكثير من الغرور في الأحيان الأخرى أن يقف على مسافة متباينة بين ما يقرأ من أفكار وأطروحات ونصوص، وبين ما يُحرضه عقله المتحمس للتمرد على كل ما هو سائد من ذلك الركام الهائل من التراث والتاريخ. فقط، لأنني حاولت أن أميز ما بين النص الديني والفكر الديني، حيث إن الأول هو الأحكام والنصوص والأوامر والنواهي الواردة في القرآن الكريم أو في السنة المطهرة، بينما الثاني ـ أي الفكر الديني ـ هو محاولة جادة لفهم أو تحليل أو توجيه لذلك النص الديني. الأول هو ما ندين به ونتقرب إلى الله عز وجل بالتعبد به، أما الثاني، فهو الطريقة التي نعتقدها للوصول إلى ذلك. الفرق بين الاثنين واضح لا لبس فيه، ولكن يبدو أن البعض ممن يمتلكون الحقيقة المطلقة، ويظنون ـ وبعض الظن إثم ـ بأن لهم الولاية العامة والخاصة علينا نحن الرعاع والجهلة، يبدو أن هؤلاء لا يُريدوننا أن نفهم القليل من ديننا الحنيف خارج عباءتهم المقدسة!.

ما أشبه الليلة بالبارحة، فقبل عدة أيام تجددت الذكرى الأليمة ولكن هذه المرة عبر إحدى الوسائط الإعلامية الجديدة التي لا يُحسن استخدامها الكثير منا، هذه المرة ليست وجهاً لوجه كما كانت في المرة الأولى ولكن جاء التشنيع والتصنيف عبر فضاءات الشبكة العنكبوتية. أكثر من عقدين، ومازالت مثل هذه التهم الكريهة تلقى رواجاً واستعمالاً وقبولاً لدى البعض، وهم للأسف الشديد يملؤون الساحات المختلفة ضجيجاً ولغطاً وعنصرية وتمييزاً. اشعر بنفس الحزن والأسف الذي اعتراني في المرة الأولى، ولكن هذه المرة ليس على نفسي، ولكن على هؤلاء الحمقى الذين يوزعون التهم الباطلة والأوصاف البغيضة والتصنيفات المقيتة على كل من يختلف معهم، ولو في بعض المفردات والعبارات، فضلاً عن الرؤى والمعتقدات.

وبشيء من الصراحة المؤلمة، نحن مجتمع الثابت فيه الاحتقان والتأزم، بينما المتغير هو مجرد مبادرات للتهدئة هنا أو محاولات لامتصاص غضبة هناك. هذه هي الحقيقة المُرة التي يجب الاعتراف بها إذا كنا فعلاً نُريد حلاً لهذه المشكلة ـ الفتنة ـ الخطيرة، لأن أولى خطوات الحل الطويلة والمضنية هي الاعتراف بوجود هذه الحالة المتنامية من الاحتقان والترصد من بعض الأطراف هنا أو هناك. أما أسباب تصاعد مثل هذه الأزمات والاحتقانات بين الحين والآخر فكثيرة جداً، وأنا هنا لست بصدد تتبعها، وهي على كل حال لا تخفى على أحد. فقط أشير إلى هذه الظاهرة السيئة التي تدفع باتجاه تنامي حالة من الكره والاحتقان والتشرذم في بنية المجتمع السعودي. التصنيف، بكل ألوانه ومستوياته الطائفية والثقافية والقبلية والطبقية والجنسية. التصنيف هو الخطر الداهم على وحدتنا الوطنية، والمتسبب في تفكيك حالة الترابط والتجانس المجتمعي ـ الهش أصلاً ـ التي ينشدها العقلاء والحكماء والمحبون لهذا الوطن العزيز.

لقد استفحلت هذه الظاهرة الخطيرة ـ التصنيف ـ بين أوساط وشرائح المجتمع، وتسببت في افتعال الكثير من الأزمات والتداعيات التي استنزفت الكثير من الجهود والطاقات والإمكانات التي كانت كفيلة بتطور ونماء وازدهار ورفاه هذا الوطن العزيز. ويبدو أن لا جدوى من كل تلك المبادرات والمحاولات والتطلعات التي تتصدى لزحف وتغول هذه الظاهرة البغيضة، وبعض الكتابات والندوات والبرامج التي تتبناها فئة مخلصة وغيورة على هذا الوطن المستهدف لن تستطيع لوحدها القضاء أو الحد من هذه الظاهرة التي تلقى من يدعمها ويُغذيها ويؤججوها. اعتقد بأن الوقت قد حان لتدخل الدولة ممثلة بالجهات المعنية وذات العلاقة لسن بعض التشريعات والقوانين والعقوبات الصارمة لتجريم ومعاقبة وملاحقة كل المتورطين بنشر واستخدام وترويج كل أشكال وألوان التصنيف البغيض. يجب أن تختفي هذه التصنيفات الكريهة: علماني، زنديق، رافضي، ناصبي، خفافيش الظلام، زوار السفارات، مبتدعة، قبوريون، خوارج العصر، مخلفات حجاج، متصهين، أهل الضلال، وغيرها من سلسلة الكره والتعصب والتمييز التي يعج بها قاموس التصنيف الوطني.

فلنختلف، ولتتباين الرؤى فيما بيننا، ولكن ما أجمل أن نتحلى بشرف الخصومة واحترام الآخر.