أؤكد مرة بعد أخرى، أن الوقوف في صف أي انقلاب ضد اختيار الشعوب وإرادتها عمل غير صالح وغير شريف، عمل غادر وآثم وغير أخلاقي؛ مهما كان الانقلابيون، إسلاميين -كما جرى في السودان في نهاية الثمانينيات- أو غيرهم.

كما أن من غير الأخلاقي -فضلا عن أنه غير معرفيّ- تعميم الأحكام على طوائف بأكملها فيما يحتاج استقراء حقيقيا، أو إثباتا بيّنًا، حتى لو كانت تلك الطائفة هي الإخوان المسلمون، أو حركة غولن، أو غيرهما.

يبدو أن البشر يتشابهون وأن الذي يختلف فقط هو "المواقع"، فإذا صدر (الفعل الآثم) من خصمي فهو إثم، وهو فسوق، وهو كفر، لكنه إن صدر من (صاحبي) فهناك ألف تأويل وتأويل، وألف دفاع ودفاع.

إن كان هذا الفعل أو ذاك إثمًا؛ فمن  يفعل الإثم فهو آثم، بغض النظر عن انتمائه الحزبي والأيديولوجي، فالانقلاب على خيارات الشعوب مدان، سواء أكان من فعل هذا الانقلاب إسلاميًّا أو غير إسلامي. وإن كان هذا الفعل أو ذاك خيرًا وبرًّا، فمن يفعله فهو فاعل للخير وللبر إسلاميًّا كان أو غير إسلامي. هذا هو العدل، وهذا هو الإنصاف. وما سوى هذا فتناقض في الأحكام، تناقض معرفي، أو أخلاقي.

تابعت لقاء إردوغان على قناة الجزيرة، ولئن كان غولن وراء الانقلاب حقًّا فله نصيبه من الإثم والغدر، غير أني تعجبت من قول إردوغان عن حركة الخدمة إنها حركة منحرفة، وإنهم يقولون: إن غولن أقرب إلينا من حبل الوريد، وهذا كفر!

هذا كلام إردوغان عن حركة غولن. وقفت أمام هذه المقولة متأملاً، أأجرى إردوغان استقراء فخلص إلى أن الحركة بكل من فيها تقول هذا القول الكفري؟ أهو جزء من عقيدتها؟

إن هذا خطاب شعبوي سياسي، تشويه طائفة تبريرًا للقضاء عليها، وبإمكان خصوم إردوغان أن يقولوا: إن إردوغان يقوم بالتطبيع الشامل مع إسرائيل، والتطبيع مع إسرائيل كفر، وأيضا بخطاب شعبوي سياسي!

ليس هذا دفاعا مني عن غولن، ولا هجوما مني على إردوغان، ولكنه تأمل في هذا الخطاب، وفي طريقة التفكير، وهو كل همّي، وما أدندن حوله دائما.

من يرفض الانقلاب من جهة، فعليه أن يرفضه من كل جهة، وإلا فهو متناقض. أما أن ينقم على الانقلاب من أناس (يكرههم)، ويرحب به من أناس (يحبهم) فهو متناقض. من يرفض التطبيع من جهة، فعليه أن يرفضه من كل جهة، وإلا فهو متناقض، من يقبل كلام (منشقين) عن خصومه استدلالا به على فسادهم، فعليه أن يقبل كلام المنشقين عن (أصحابه) سواء بسواء وإلا فهو متناقض.

إن مناط الأحكام في شريعة الله هو الظواهر، فإذا كان فلان من الناس ظاهره علمانيّ، وطريقته طريقة علمانيين، وأنظمته أنظمة علمانية، وهو يدافع عن العلمانية، بل ينصح بالعلمانية، فهو علماني. نحكم عليه بالظاهر، ونكل سريرته إلى الله، حتى لو فعل ما يستحق العقوبة، بل حتى لو عوقب.

ما يلفت الانتباه أن من "الطيبين" من يحيل على البواطن (التي لا يعلمها إلا الله) دون الظواهر، فهناك من يريد نظام إردوغان نفسه، ويدعو إلى ذلك، ولكنه لا يقابل إلا بالثلب والشتم والاتهام بعداوة الدين، بينما صاحب النظام نفسه (أي إردوغان) موطن دفاع، واعتزاز، بل ولاء وبراء في بعض الأحيان.

قرأت لكاتب إسلامي تبريرا لفرحه بفوز إردوغان في الانتخابات، قوامه أن إردوغان يقوم (بتديين) مجتمعه على قدر الإمكان، لكن هذا ليس مقبولا من غيره، ممن يريد علمنة شعب متديّن. وقال في سياق إجابته عن سؤال: "لماذا نفرح بفوز إردوغان؟"، قال: "حين أرى رجلاً في بلد علماني يقوده للشريعة، ورجلاً في بلد فيه مكتسبات شرعية يقوده للعلمنة؛ فالمعيار في المقارنة بينهما ليس مستوى تدين الرجلين، بل التدين بالنسبة للسياق، يجب ملاحظة بوصلة كل منهما. شتان بين من يدفع مجتمعا علمانيا ليزيد تدينه، وبين من يدفع مجتمعا متدينا ليخفف من تدينه!". انتهى كلامه.

قلت: إن ما يفعله إردوغان هو تطبيق العلمانية الصحيحة، العلمانية التي تضمن لمن أرادت الحجاب أن تتحجب، ولمن أرادت أن تخلعه أن تخلعه!

فهو ليس تديينًا للمجتمع، ولكنه تطبيق للعلمانية الصحيحة إذا شئنا الدقّة.

وما نقلت هذا النص إلا من باب ضرب المثال للحجج العقلوية، وأستخدم لفظ (العقلوية) -بإضافة الواو، على زنة إسلامويّة، وعلمويّة... إلخ- بيانًا لزيف هذه الحجة، أي ما يبدو أنه خطاب عقلي ولكنه ليس كذلك.

أما ما فعله إردوغان مما عدّه الكاتب الإسلامي هذا -وفقه الله لكل خير- فهو كما وصفتُه؛ تطبيق للعلمانية الصحيحة التي تضمن الحريات ولا تقمعها، هذا هو الظاهر الذي علينا أن نتحاكم إليه، أما عدّه (تديينًا) للمجتمع فهو ما يعود إلى البواطن التي لا يعلمها إلا الله، والتي توكل إلى علام الغيوب سبحانه.

ورد في الحديث الشهير الذي رواه مسلم: "فمن أحب أن يزحزح عن النار، ويدخل الجنة، فلتأته منيته وهو يؤمن بالله واليوم الآخر، وليأت إلى الناس الذي يحب أن يؤتى إليه".

إن ثبتت جهة أنها قامت بعمل خاطئ، فلا بد من أن تنال عقابها على هذا أيًا كانت تلك الجهة.

لست -حال كوني إنسانًا عاقلاً- غولنيًّا، ولا إردوغانيًّا، ولكني مع الشعوب إذا اختارت، وضد كل انقلاب وكل انقلابي، كما أني ضد التناقض في المواقف؛ لأنه عمل غير معرفي، وهو أيضا عمل غير أخلاقي، و(ويل للمطففين).